“قضيتان.. وتهور”



في 29 نوفمبر من عام 1947، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 حول تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وفلسطينية.

كانت حصة الفلسطينيين من الأرض نحو 45 بالمئة، ومن ضمنها الضفة الغربية وقطاع غزة والجليل، وجزء من صحراء النقب ومدينة القدس. وبغض النظر عن حيثيات القرار ونيّات بريطانيا؛ فقد رفضت الدول العربية القرارَ جملةً وتفصيلًا، وأيده آنذاك الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية العربية، بطبيعة تبعيتها له؛ فهب الشارع العربي ضد الاتحاد السوفييتي وضد الشيوعيين، واتهمهم بالخيانة والتآمر على بيع فلسطين. ومنذ ذلك الحين، استمرت “إسرائيل” باغتصاب الأراضي قطعة قطعة تحت أنظار العرب دولًا وشعوبًا، واستمر العرب بالرد على الاغتصاب والاستيطان بالمسيرات والشعارات الفارغة (كل شيء أو لا شيء) حتى بقي من فلسطين، لغاية حرب حزيران/ يونيو 1967، الضفة الغربية ومعها القدس الشرقية تحت حكم الدولة الهاشمية، وقطاع غزة تحت حكم الدولة الناصرية. وكان شعار العرب الأوحد الأجوف “رمي اليهود في البحر”.

في مارس 1965 أثناء زيارة الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي إلى الأردن، أعلن هذا السياسي المحنك من أريحا مبادرته لإخوانه العرب، بإقامة صلح مع “إسرائيل” وقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، مع إعادة ثلث الأراضي التي اغتصبتها “إسرائيل” بعد قرار التقسيم للفلسطينيين، وعودة اللاجئين إليها والقدس الشرقية عاصمتها؛ عندئذ قامت قيامة العرب ضد الحبيب بورقيبة، واتهمته بالخيانة والعمالة. الآن مطالب العرب كلهم العودة إلى ما قبل حرب حزيران.. أي إلى النقطة التي انتهى عندها بورقيبة.

القصة ذاتها تتكرر اليوم، لكن أبطالها أكثر “دونكيشوتية”، وظروفها أكثر دراماتيكية. العراق وسورية دولتان مدمَّرتان تابعتان للخارج، الأكراد فيهما عانوا من ظلم مزدوج، في ظل حكم البعث القومي العربي، الذي ظلمهم كمواطنين في هاتين الدولتين، مثلهم مثل إخوانهم الآخرين من عرب وتركمان وأشور.. وظلمهم القومي كمكون رئيس في المجتمع (الثقافة، اللغة، الهوية، التنمية..). وهم الوحيدون، من الشعبين العراقي والسوري، الذين لم يأخذهم وهم عودة الخلافة الإسلامية أو تحكيم الشريعة الإسلامية أو ولاية الفقيه، وكان لهم مشروعهم الخاص، كإطار قومي ومشروع حداثوي في إطار دولة فدرالية، وقد نجحوا إلى حد بعيد في العراق؛ فصار إقليم كردستان واحة العراق التي تنعم بالأمان والراحة والتنمية، ونجحوا في سورية في تمييز مشروعهم في الثورة السورية (فدرالية ديمقراطية) من المشروع الإسلاموي الذي لا يختلف كثيرًا عن مشروع البعث القومي الاستبدادي الإقصائي، إن لم يكن أسوأ منه؛ لأنه يقوم على الاستبداد الديني-السياسي الإلغائي، وعلى ماضوية غير قابلة للحياة.

لا يخفي أكراد العراق، منذ الستينيات، رغبتهم في الاستقلال، وقد ناضلوا من أجله عشرات السنين (الرغبة نفسها عند أكراد تركيا وإيران). اليوم يبدو أن الظروف الدولية، وظروف العراق السياسية والاقتصادية، وشعور الأكراد بأن إقليمهم لا يمكن أن يتعايش مع عراق مرتهن لولاية الفقيه، سمحت لهم بإجراء استفتاء شعبي، لتقرير مصير الشعب الكردي في العراق. وبدلًا من أن يتفهم العرب هذه المتغيرات، ورغبة إخوتهم الأكراد الذين لم يتوانوا لحظة عن مشاركتهم في جميع قضاياهم الوطنية والقومية؛ أخذوا على عاتقهم مواجهتهم، تحت شعار أجوف “رمي الكرد في لُجّة العروبة والإسلام”، بأفهام معينة ربما تقود الطرفين إلى صراع دامٍ، قد يستمر عقودًا من الزمن؛ ينتج قطيعة تاريخية بين شعبين عريقين تعايشا ردحًا طويلًا من الزمن، وكلاهما يعلم أنّ ما يوحد مصالحهما أكثر بكثير مما يفرقها.

تجري محاولات بائسة لإلباس القضية الكردية لبوسًا إسرائيليًا، وتستغل “إسرائيل” هذا السياق لتظهر بمظهر نصير للقضية الكردية، وربما بعض السياسيين الأكراد يدفعون الأمور بهذا الاتجاه؛ لكسب ود الغرب وتأييده لمشروع الانفصال، لكن هذا السياق مبالغ فيه من جهة، ومن جهة أخرى، يضر بالقضية الكردية؛ إذ إن “إسرائيل” وهي المغْتَصِبة لفلسطين ترفض حل القضية الفلسطينية على أساس الدولتين وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم. في المقابل يخطئ العرب والكرد وغيرهم من أبناء المنطقة بتقديم القضية الكردية على طبق من ذهب لـ “إسرائيل” أو لغيرها. لقد عالجت الهندُ موضوع استقلال باكستان، وعالجت باكستان موضوع استقلال بنغلادش، وعالجت روسيا موضوع استقلال جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بكثيرٍ من الحكمة والواقعية.

إن النظر إلى مشيئة الأكراد نظرةً عدائيةً خطأ جسيم؛ فالدولة الكردية -كما الدولة الفلسطينية- آتية لا محال، إذ ليس بمقدور أحد -مهما تبجح بقدراته وحججه- ليّ عنق التاريخ أو وقف سيرورته، وقيام الدولتين سلميًا ينتج توازنات جديدة في المنطقة؛ تفتح آفاقًا واسعة للتعاون المدني السلمي بين دولها.

أمام هذا الواقع، لم تغلق حكومة إقليم كردستان البابَ أمام أي بديل مقنع عن الاستفتاء والانفصال، تقدمه حكومة العراق المركزية، يؤمن سيادة واستقلال العراق الفدرالي العلماني الديمقراطي، ويحقق المساواة بين جميع مكونات الشعب العراقي. وهذا البديل هو الأصلح لكل دول المنطقة المتعددة الإثنيات والقوميات والمذاهب والاتجاهات السياسية، لأنه ينطلق من مفهوم الحق والحرية والمساواة. فهل بمقدور الولايتين: ولاية الفقيه وولاية العروبة، الإنصات لصوت العقل أم ستتكرر تجربة التعامل المتهورة مع القضية الفلسطينية في صورة القضية الكردية، بالرغم من اختلافهما في كون القضية الفلسطينية قضية شعبٍ، اغتُصبت أرضه وهجر في الشتات، بينما القضية الكردية هي قضية تقرير مصير شعب على أرضه التاريخية؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على مدى تفهّم الشعب العراقي، ومن ثم شعوب المنطقة كلها، لهواجس الشعب الكردي وإراداته. وعدم الانسياق المتهور لأي إرادة سياسية ما تزال تقفز عن الواقع، إلى الأمام أو إلى الخلف، تحت شعار أجوف “كل شيء أو لا شيء”، وسواء صدرت عن قومجي أو إسلاموي، أو عن عربي أو كردي أو إيراني أو تركي. فقضايا الشعوب تعالَج بالعقل والحكمة ولا تعالج بالعاطفة والتهور.




المصدر
مهيب صالحة