الجمال هو المعنى
26 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
الحرف منجز جمالي، يحمل صيغًا تشكيلية عديدة، وهو قادر على حمل رسالة بصرية.
الفنان السوري خالد الساعي أحدُ الروّاد المتميّزين والقلّة، لفن جديدٍ بدأ يتشكل مع بدايات السبعينيات من القرن الماضي، متمرّدًا على النمط التقليدي لفن الخط العربي. ويُعدّ خالد الساعي أحد أساتذة “المدرسة الحروفية” في العالَم، وهي مدرسة مزجت بين فن الخط العربي، والفن التشكيلي، وتمرّد فيها الحرف على الوسيلة، ليكون غايةً بحد ذاته، حيث تُعنَى الحروف بالمادة البصرية الجمالية أكثر من تشكيلِ نصٍّ ومعنى، فالمعنى في لوحات الساعي يُستمَدُّ من الجمال، من تناسق اللون وانحناءة الحرف وتداخل العالَمين معًا، وليس من النص الذي درجت عليه عادة الفن التقليدي للخط العربي.
في مكتبة هادئة وصغيرة، قرب منتدى الفن في مدينة بون الألمانية، التقت (جيرون) الفنانَ خالد الساعي، وكان هذا الحوار:
– أستاذ خالد، بداية ما سبب تواجدُك حاليًا في مدينة بون؟
= أنا مشارك في معرض خاص بسورية مع فنانين سوريين آخرين، تحت مسمّى (بعيدًا عن الوطن)، وافتُتِح المعرض في منتدى الفنانين في بون، وامتدّ بين 27 آب/ أغسطس الماضي، وحتى 17 أيلول/ سبتمبر الجاري، إضافة إلى ورشتي عمل، أشرفت عليهما في الثاني والتاسع من هذا الشهر.
– لنعد إلى البداية، أكان لديك ميل تجاه الخط العربي قبل دخولك كلية الفنون في دمشق، أم أنّك في الكلية استطعت أن تتلمّس شغفك به؟
= أنا -بالأساس- ابن عائلة فنية مهتمة بالخط والرسم والموسيقا والأدب، وشغفي بفن الخط يعود إلى الطفولة، وكنت قد قمت بمعارض فردية قبل دخولي الكلية، إلا أنه كان لدي قلق دائم حول طريقي: هل يكون تجاه الرسم أم تجاه الخط. كانت كلية الفنون ضرورية لصقل خبرتي أكاديميًا، وفرصة كبيرة للاحتكاك بمشاريع وزملاء وأساتذة، كانت عبارة عن مختبر لمدة سبع سنوات، لأنني أكملت -أيضًا- الماجستير في مجال التصوير في الكلية في دمشق، أما في مجال الخط، فلا يمكن أن تُفيد كلية الفنون شيئًا؛ لذلك، حصلت على منحة ماستر في مركز أبحاث الفنون الإسلامية في إسطنبول، وكنت قبلًا قد نلت الجائزة الأولى على العالم في الخط، في مهرجان طهران عام 1996.
– كيف كان لقاؤك مع المدرسة الحروفية؟
= دائمًا، كان لدي هاجس بالخروج بلوحة غريبة ومختلفة، تدمج الخط والرسم معًا، تلك الصيغة المشتركة التي يمكنها أن تحقق الغرضين معًا، فالرسم فنّ عالمي وحداثي، ولكن عند طرح سؤال الحداثة، يبقى الخط مدرسة تقليدية لا تتواءم مع التحدي، لذلك كانت رؤيتي إنتاج لوحة حديثة للحرف، على مستوى عال من الفن يربط الفن التشكيلي بالخط العربي.
– هل كان هناك صعوبة في عملية الدمج تلك؟
= الخط هو حالة خاصة من الفن التشكيلي، ولوحة الخط هي لوحة سطح بقيم جمالية ذات بعد واحد، وتحمل معنًى محددًا بالنص، فعندما تريد أن تنفتح على التشكيل، فأنت تنفتح على عالم آخر ثلاثي الأبعاد، يحوي مفاهيم الضوء والظل والشفافية وحس المادة والتكوين.. إلخ، وكل ذلك يتطلب شروطًا خاصة به، العالَمان يتقاطعان، ولكن في الوقت نفسه يتنافران، فالصعوبة تكمن في إنتاج صيغة مشتركة لا يطغى فيها أحدهما على الآخر. هناك فنانون في المدرسة الحروفية تمسكوا بالمدرسة التقليدية، وتعاملوا مع الألوان كبعد حداثي، في حين تناول قسم آخر الحرف كقيمة تشكيلية وعلامة لا أكثر، مجردًا إياه من أي انتماء تقليدي، أما عملي فيرتكز على إيجاد توازن بين التقليد والحداثة، وهو بحث طويل ومستمر.
– ما الذي يميّزك في المدرسة الحروفية؟
= حركة الحروف قديمة منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأعتقد أن ما يميزني من الفنانين الآخرين هو عملي على أنسنة الحرف، فالحرف يعتمد على معيارية ونسب تنطلق من علم الجمال المثالي، لقد تعاملت مع الحرف ليس كقيمة تصويرية منبعها الكتابة، وإنما كقيمة أكاديمية حية تحقق النسبة الذهبية، فالحروف لدي هي العناصر البصرية التي تشكل عالمي الرئيس، وهناك عوالم أخرى تسانده من لون وكتلة وفراغ، لأن الحرف منجز جمالي يحمل صيغًا تشكيلية عديدة، وهو قادر على حمل رسالة بصرية.
– المدرسة الصوفية هي إحدى المدارس التي أنسنت الحرف أيضًا، فهل استفدت منها في تجربتك؟
= للصوفية علاقة وطيدة مع الحروف، وكما يقول ابن عربي “الحروف أمّة من الأمم”، والحرف هو تصوف اللغة، لأنه يكتشفها، والفن الذي أتعامل معه هو ذلك البرزخ الذي يشكله الحرف، بين عالم الخيال والعالم المعاش، ولا ننسى أن الصوفية هي بالعموم جاءت بمفاهيم تأويل جديدة حول الدين والطقس والأداء، وكان لاطلاعي على قصائد الصوفيين كابن عربي، ابن الفارض، النفري، السهروردي والحلاج وغيرهم كثر، دورٌ مهم في الطريق الذي أسير فيه.
– اللغة تأتي في صلب الشعور بالهوية، ولا سيّما عند العرب، فهل لمست في مسيرتك أن المدرسة الحروفية، بما أدخلته من عناصر بصرية أخرى على اللوحة، حققت استقطابًا جديدًا مضافًا إلى فن الخط من الشباب العربي؟
= للأسف، في سورية لم أشهد ذلك الاستفطاب، ولكن في مناطق أخرى من العالم العربي مثل المغرب، تلحظ أن هناك إقبالًا جيدًا، وليس من الشباب الملتزم فحسب، بل إن الخط هناك أخذ في المدرسة الحروفية انتماء آخر تشكيليًا، وليس دينيًا، هو نوع من علمنة الحرف، إن صح القول، وهذه سيرورة طبيعية، فحتى في أوروبا ارتبط الفن التصويري بداية بالكنيسة، ثم تطور واتخذ مساره المستقل.
– ما الذي يجعل هذا الفن غير منتشر بالشكل الذي يستحقه في الوطن العربي عمومًا؟
= عدم وجود مدارس تدرّسه، أنا أفاجأ بالكثير من الشباب من زوار معارضي، وخصوصًا في سورية، يخبرونني أنهم لم يكونوا يهتمون بفن الخط، لكونهم يعدّونه فنًا قديمًا متحفيًا، ولكنهم تفاجؤوا بالمدارس الجديدة في الخط، لذلك فالمشكلة الرئيسية تكمن في المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية في تلك الدول، ففي سورية لم يكن هناك أي مدرسة على سبيل المثال للخط العربي، حتى إن وُجِدت المدارس في العالم العربي، فهي تقليدية تتعامل مع الحرف كشيء تزييني خاص بالعبادة.
– هل لديك تجربة في تدريس الخط لغير العرب أو المسلمين؟
= نعم، درّست في مناطق مختلفة من العالم مثل كلية (ويلسلي) في بوسطن وجامعة (ميشيغن)، ودرّست طلابًا لا ينتمون إلى الحضارة العربية أو الإسلامية، ولا يعرفون اللغة العربية، وكان هذا رهاني، التعامل مع الحرف كمادة بصرية جمالية، وخرجت بنتائج مذهلة. الخط العربي له احتمالات هائلة ومفتوحة. لدينا على سبيل المثال ما يقارب مئتي خط كوفي، ولك أن تتخيل كيف يمكن أن نرسم الحرف والكلمة بآلاف الأشكال والصيغ، هذا يوفر لديك مدرسة غنية وكبيرة، ترد على المدّعين بالقصور البصري للحرف.
– من أعمالك المهمة عمل “الثورة السورية” المعروض هنا، هل ترى أن الحرف، ضمن هذا التحول التشكيلي، قادر على طرح مواضيع خارج إطار محدودية النص؟
= هذا هو لبّ رسالتي، نعم الحرف قادر على الابتعاد عن التجريد والتنصيص، وعمل “الثورة السورية” عمل كبير 3×11 م، وهو بانوراما تتحدث عن الثورة، منذ بدايتها السلمية حتى مراحل القصف والتشريد واللجوء، وهناك عمل آخر -أيضًا- يستكملها حول تحدي الاندماج هنا في أوروبا، وأعتقد أنني استطعت أن أوصل رسالتي من خلال ذلك العمل، ولم أستخدم فقط الحرف، وإنما الكلمة، ففي لوحة “السلام” استخدمت كلمات مثل تفاهم وتشارك، ووضعتها ضمن صيغ بصرية خاصة بها، فاستخدمت مثلًا لونًا للتفاهم، ولونًا للتشارك، ولونًا للحرية.. وهكذا.
– هل فكرت بأن تقيم مشروعك التعليمي الخاص بالخط العربي والمدرسة الحروفية؟
= نعم، وقد كان هناك عام 2009 مشروع إنشاء مدرسة خاصة (بيت الخط) في دمشق، بشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ولكن الظروف منعت ذلك، وكذلك في المغرب لم يتم الأمر لظروف أخرى غير إيجابية، للأسف، أما في الخليج فليس هناك إقبال كبير على التعلم الذي يشجعك. حاليًا أميركا تشكّل لي فرصة، بما تحويه من بنية ثقافية متنوعة ونهم للفن، ولدي مرسم هناك ومجموعة جيدة من الطلاب، ولدي طلاب من مناطق مختلفة في العالم، نتواصل عبر الإنترنت؛ حيث يرسلون لي أعمالهم وسكيتشات، أصححها لهم ونتواصل لتحسين أدائهم.
– هل تخليت عن المدرسة التقليدية بشكل تام؟
= طبعًا لا، فالموضوع هو حالة مترابطة، على سبيل المثال هناك خط يسمى السنبلي، وهو خط ظهر في مرحلة متأخرة من الدولة العثمانية، وبسبب تفكك الإمبراطورية لم يعد هناك من يهتم به، على جماليته، وقد عملت على “تقعيد” ذلك الخط، مما يجعله قابلًا للقياس والتقويم، ضمن قواعد واضحة، وبالتالي يُدرَّس أكاديميًا.
– أما زال لديك أمل في افتتاح بيت الخط العربي في دمشق أو إحدى المدن السورية؟
= للأسف، كان هذا المشروع واقعًا واضحًا، لكن التداعيات الكارثية في سورية جعلته حلمًا، الأمل في تحقيقه ضعيف.
الجدير بالذكر أن الفنان خالد الساعي من مواليد حمص 1970، درس الفنون الجميلة في دمشق، ويُعدّ من رواد المدرسة التشكيلية الحروفية في العالم.
[sociallocker] [/sociallocker]رعد أطلي