تقاسم النفوذ في غياب “أتاتورك السوري”



يستغرب البعض مرورَ نحو سبع سنوات على الحدث السوري الكبير، من دون ظهور شخصية أو شخصيات كاريزمية سورية جامعة، تُحدِث فرقًا في مسار التطورات الدراماتيكية المستمرة منذ ذلك الحين. وإنه استغراب مشروع، فلماذا لم يحصل ذلك بالفعل؟

تأسست تركيا في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923، بعد أن أعاد أتاتورك السيطرة على الخارطة التركية، في غضون عدة سنوات تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى، منتزعًا أراضي الجمهورية التركية الحالية من الحلفاء وحلفائهم الإقليميين؛ بريطانيا وفرنسا وروسيا واليونان وأرمينيا. واقع تركيا المفككة آنذاك يشبه حالة سورية اليوم، إلى حدّ ما، لكن من دون أتاتورك سوري يحمل مشروعًا، حتى الآن على الأقل، فهل من المرجح ظهوره، أم أن دون ذلك المزيد من العقبات؟

ما سمح لأتاتورك باستعادة مساحة تركيا الحالية، من أملاك السلطنة العثمانية مترامية الأطراف، هو الاستناد إلى عصبية قومية تركية، كانت قد أُشبعت قهرًا بعد الهزيمة؛ فتمكن من حشد القوى القومية وراء هدف جديد، ليس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فحسب، وإنما لإجراء تحول استراتيجي عميق، تمثّل بعملية انقلاب تاريخية على الدور والثقافة العثمانيين، من خلال وضع أسس نظام علماني، بقي الجيش التركي، حتى وقت متأخر، حارسه القوي وحاميه، ونرى نتائجه الإيجابية حاليًا، على الرغم من المحاولات “الأردوغانية” لأسلمة الدولة من جديد، بحجة إصلاح النظام العلماني ذاته! تم تقاسم التركة العثمانية في شرق المتوسط بموجب اتفاقية (سايكس-بيكو)، بين مناطق النفوذ البريطاني-الفرنسي، وبما لا يسمح بتكوين دول ذات أسس متينة. وبسبب فشل محاولات التنوير، بما في ذلك قيام دول المواطنة؛ احتاج الأمر إلى أنظمة استبدادية عنفية لتثبيت الواقع، كما في سورية والعراق. بناء على ما سبق؛ من غير المرجح أن تصمد هذه الدول/ الكيانات أكثر من المئة عام التي مضت على وجودها شبه القسري، إلا -اللهمّ- كمحميات دولية.

السبب الأول لعدم ظهور أتاتورك سوري هو غياب عصبية سورية، قومية أو وطنية، يمكن مقارنتها بالعصبية القومية التركية التي أفرزت أتاتورك في نطاق نفوذها وتأثيرها. إذ إنّ العصبية الوطنية التي سادت في سورية بعد الاستقلال كانت فتية وضعيفة، في حين كانت العصبية القومية التي سادت بعد الوحدة عاطفية المحتوى. وكلتاهما -الثقافة الوطنية والقومية- نشأتا على أرضية ثقافة إسلامية تقليدية، على نحو خاص، ظلت تحكم آليات تفكير معظم السوريين، وتعيد إنتاج نفسها، بعيدًا عن صخب شعارات القوى الصاعدة الجديدة التي هادنتها في العمق.

وبسبب التنوع السوري، الديني والمذهبي والقومي، وعدم تبلور انتماء وطني، وضعف حضور دولة المواطنة والقانون وابتسارها، لم يكن بوسع أي شخصية كاريزمية أن تستند إلى انتماء جامع يوحد السوريين، بعد أن رُفع الغطاء عن الواقع السوري في ربيع عام 2011. لاحقًا، أضيفت حملات التحريض المتبادلة، وصار من شبه المستحيل ظهور شخصية أو شخصيات سورية جامعة، أو خروجها من حالة الكمون إلى دائرة الفعل، بحكم ضعف الانتماء السوري المؤجل الذي تستند إليه. وفي هذا السياق أيضًا، لم تفرز المؤسسة العسكرية، بجزئها المنشق أو الرسمي، أي قائد عسكري يمكنه القيام بدور إنقاذي، مع أن ذلك يحدث عادةً، في أثناء الأزمات والانقسامات الاجتماعية الحادة.

كما فشلت المعارضة أيضًا في إنتاج شخصية سياسية بديلة، يلتف حولها معظم السوريين، وبقي العمل المؤسساتي ضعيفًا إلى حد كبير؛ بسبب عدم وجود تجارب سورية سابقة فعالة في العمل الجماعي أو العمل كفريق، سواء على المستوى السياسي المعارض أو ما دونه.

وبحكم المنطق؛ لم يكن لثقافة تقليدية مفوتة أن تنتصر، مهما تسلّحت وتأدلجت، وها هي تترنح الآن، لتخرج مرة ثانية إلى ظلال التاريخ، في الوقت الذي يصعب فيه على النظام الاستبدادي تسويق نفسه من جديد؛ بسبب اختلاف الظروف وتحكم الحلفاء الأقوياء، ولأن مفهوم الوطنية الذي يعتمده ليس أكثر من راية مرفوعة، لحجب المفاسد والمظالم، أهمها تقاسم الثروة واحتكار السلطة.

في هذه الظروف، تقتصر الحركيات السياسية-الاجتماعية على تلك التي تعمل في ظل الهيمنة الخارجية وبشروطها. لعل أبرز التطورات الحاصلة الآن هي تلك التحولات الحاصلة في شمال شرق سورية، والتي قد تقود إلى إعلان فدرالية من طرف واحد. كما أن مؤتمر أستانا الأخير أعطى دفعة جديدة لرسم ملامح الخريطة السورية، من خلال تقاسم الإشراف الروسي-التركي على محافظة إدلب، فيما يستمر التقدم في مواجهة (داعش) في الرقة ودير الزور، والتنافس المحموم على آبار النفط والغاز في تلك المنطقة، بين قوات النظام وحلفائه من جهة و”قوات سورية الديمقراطية” المدعومة أميركيًا من جهة أخرى. يجري ذلك كله وسط تشتت القوى السورية واغترابها وتبعيتها، وعجزها عن استشراف المآلات القادمة واستراتيجيات الدول، بخصوص الشأن السوري.

في نهاية هذه المرحلة، يفترض أن يعود مؤتمر جنيف إلى الصدارة من أجل صياغة الحل السياسي ورسم مستقبل سورية، فقد كان من الصعب الوصول إلى اتفاق في ضوء فوضى التنظيمات المسلحة ووجود قوتين إرهابيتين رئيستين: (النصرة) و(داعش)، وستنعكس التغيرات الجوهرية على الأرض، علاوة على تباين نفوذ اللاعبين الإقليميين والتحولات التي حدثت وتحدث في أدوارهم، على مسار الحل السياسي المرتقب.

من دون استباق التطورات، يمكن القول إن مسار جنيف السياسي لا يمكنه القفز فوق الواقع على المدى المنظور، وسينعكس واقع سورية المقسم في أي توافقات مرتقبة، ويكرس غياب دولة مركزية قوية، لم توجد أصلًا إلا كحالة قسرية. لا يرقى الواقع السياسي الحالي إلى مستوى نظام فدرالي بالمفاهيم المتعارف عليها، كأن تكون الوزارات السيادية: الدفاع والخارجية، في عهدة الدولة المركزية حصرًا، إذ يحول دون ذلك نفوذ الدول على الجغرافية السورية المتشكلة بحكم هذا النفوذ ذاته. إلى أي مدى سيستمر هذا الواقع؟ يرتبط ذلك بإنهاء الوصاية الدولية في مدى غير معروف، وبعد استقرار العلاقات الداخلية السورية وتبلورها، بخاصة بين الأطراف والمركز.




المصدر
منير شحود