سيرة الملح



– أيّ الأمكنة تحبّ زيارتها؟

لم أدرك أن سؤالًا كهذا قد يدفعني إلى كتابة هذا النص، في أول الأمر؛ لأن الإجابة بدت لي صعبة، صعبة جدًا؛ وأنا أتجول في إسطنبول التي أزورها أول مرة. كنت مهمومًا بأسئلة أكبر، فهنا رأيت عشرات السوريين النازحين والهاربين من حمم البارود والقتل، وتساءلت عن أولئك التونسيين: كيف مروا بهذه المدينة وغيرها إلى سورية، بغاية رقش الدماء ونحر الرؤوس. لم أستطع مواجهة ذلك السؤال الذي طرحه علي أحد الأصدقاء، ونحن نبحث عن محل لشراء قارورة ماء، بعد أن أنهكنا العطش في مدينة لا نجيد حتى لغتها. في أثناء الليل ونحن نستعد للعودة مجددًا إلى تونس؛ حضرت الإجابة، كانت مرعبة بالنسبة إلي.

– أريد زيارة قبر هانيبعل، في هذه البلاد توجد عظام أحد أجدادي الكبار!

كنت أعرف أنه لا يمكنني تحقيق هذا الحلم، إذ إنّ مدة إقامتي هناك لم تتجاوز اليومين، إضافة إلى ذلك، لم أكن أمتلك أموالًا كافية، ورقة نقدية قيمتها (عشرون يورو) يبدو أنها لا تكفي حتى لشراء كتاب أو عشاء متواضع. لم أكن أعرف لماذا فكرت في هذا الأمر بالذات، ولكن شيئًا ما دفعني إلى ذلك: ما المشترك بين غضبي المتواصل تجاه جل السياسيين والمسرحيين والفنانين في وطني، ووجوه السوريين المتعبة التي أراها هنا؟ علي إذن ألا أتناسى كما يفعل البعض أن هانبيعل فينيقي، وأنه ابن السوريين القدامى، قبل أن يكون أحد أجدادي التونسيين!

كيف صمتنا نحن -التونسيين- كل هذه الأعوام عن رفات هذا الجد، ولم نطالب بعودته إلى قرطاج؟ كيف تدعي حكوماتنا الثورية، وهي تصمت عن رمز كهذا النبي الذي روّع العالم، وما زالت خططه الحربية حتى هذه اللحظة، مرجعًا لجيوش العديد من البلدان؟ وهل نقدم لسورية الآن قطعانًا من الوحوش تمزق أوصال رجالها، وشبيحة تكرس حكم آكل لحم البشر هناك، وهي التي وهبتنا، مع مجيء الفينيقيين، هذا النبي؟ لماذا نفاخر نحن -التونسيين- بعالم الاجتماع “ابن خلدون”، وهو الذي هادن الدموي (تيمور لنك)، وخان دمشق إبّان إقامته فيها، وننسى في المقابل صرحًا مثل هانبيعل؟ كيف نقرأ ما يكرره التاريخ الآن أمامنا؟

قبل سفري إلى إسطنبول بيوم واحد، كان لي موعد مع أحد الأصدقاء التونسيين؛ فاتفقنا أن نلتقي في أحد المقاهي، لم يأت كعادة بعض التونسيين الذين أصابتهم حمى الاستهتار وعدمية راهننا، ولكني التقيت هناك بـ “سموءل سخية”، أحد السوريين المقيمين حاليًا في تونس. تحدثنا مطولًا عن المسرح والسينما، كانت وجهات النظر متقاربة جدّا، ووصلنا إلى نتيجة واحدة.

– نحن هذا الجيل، في أزمنة الانحطاط وخصي الثورات، فشلنا في كتابة سردية أوطاننا، فالمسرحيون والفنانون أصبحوا “سريعي القذف”!

ضحكنا معًا أمام التشبيه الذي وصفتهم به، فجميعهم غرقوا في إنتاج أعمال فنية مبتذلة وتجارية، لا حسّ إشكاليًا لها، كما أنها -على ادعائها الثورية- لم تساهم إلا في خلق هوة كبيرة بينها والكيان الاجتماعي. إن مجتمعاتنا اليوم في حاجة ماسة إلى أعمال فنية كبرى وملحمية أيضًا، حتى يتسنى لها النهوض من جديد، وتعتز بانتمائها إلى هذه الأوطان، بعد أن تم شطب جميع قيمها وتشيئ رموزها، بهذا الشكل يمكنها تجاوز جراحاتها، وإعادة كتابة تاريخها من داخل ذاكرتها، كما يصعب -فيما بعد- تشويهها من جديد.

– تخيل مثلًا، أن يكون ثمة استنطاق سينمائي للمحارب هانبيعل؟

كيف نسيت أن هذه العبارة كنت قد قلتها لـ “سموءل سخية”؟ حينها تحدثنا أكثر عن فقرنا وجوعنا وتشردنا وعن أشياء نكررها كل يوم. الآن أنا في تونس، بعد عودتي من تلك الرحلة القصيرة، وعليّ أن أوفر أجرة غرفتي، ثم أواصل رحلتي الأبدية نحو البحث عن شغل مستقر. في الوقت نفسه أتذكر سيرة الثورة وأحوالها، كيف عايشتُ رحاها قبل اندلاعها وبعد، لا يمكنني نسيان أكثر من ليلة، كان فيها الرعب يجتاحني خوفًا من رجال الأمن، وخوفًا من الجوع اليومي، ولا يمكنني نسيان كيف انقطعت نهائيًا عن رفاقي اليساريين، بعد أن تغيرت قراءتنا للمشهد الثقافي والسياسي. لم أطالب بالشغل مثلهم أول الثورة بدافع الاستحقاق النضالي، وآمنت بضرورة مواصلة الدفع بالحراك الثوري، ولم أثق إطلاقًا في كل الحكومات التي تداولت على السلطة، ولم أربح شيئًا، سوى عودتي إلى مقاعد الدراسة، بعد أن حرمني منها النظام. الآن أجدني وحيدًا مثل إله، لا أصدقاء لي ولا أتباع، أجرّ هزيمتي وحدي.

لقد سقط أبناءُ جيلي السياسيون في الأحزاب، ولكني سقطت منها، أما المسرحيون والسينمائيون، فقد صرت أخافهم كثيرًا، لأنهم على غرار قسوتهم الإنتاجية وازدرائهم تعب الآخرين، لا ينتجون أعمالًا فنية كبيرة، بل ينتجون في السنة الواحدة أكثر من عملٍ رديء، لا يستحق حتى التأمل والنقد، ولهذا لا أستطيع أن أصفهم إلا بأصحاب “القذف السريع”، كما تهكم أحد الشعراء على أصدقائه.

علي -أيضًا- أن ألتزم بالكتابة مع شبكة (جيرون) الإعلامية، ولكن ما الذي سأكتبه ولا أكتبه؟ لقد صرت أجلد ذاتي باستمرار؛ كلما نشرت نصًا رديئًا، لذلك علي أن أفكر كثيرًا قبل الكتابة، حاولت مرارًا أن أكتب هذه المدة؛ لكني فشلت، ولكن ذلك السؤال حركني كثيرًا، ودفعني إلى هذا النص.

– أيّ الأمكنة تحب زيارتها؟

إن هؤلاء السياسيين -جميعًا- قتلة، وهؤلاء الفنانون يجهلون حتى ذاكرتهم، المسرحيون والسينمائيون والديمقراطيون والإسلاميون والشعراء والبلشفيك والمنشفيك تشاركوا جميعهم في قتل كل رموز هذا الوطن، لم يتركوا شيئًا دنيئًا إلا وابتكروه؛ لذلك قد أفكر في الهجرة أنا الآخر، ولا أعرف أي جهة في الأرض قد تبتلعني، ليس لأني لم أعد وطنيًا، بل لأن الجرح صار أبعد من الخرائط. لقد هرب هانبيعل من مكيدة الأرستقراطيين بعد أن قرروا الخنوع وتسليمه إلى الأعداء، ومن ثمة؛ سقطت قرطاج ليتم رش الملح على أرضها، أما عظامه فهي -حتى الآن- لم تعد إلى هذه الأرض، وربما لن تعود. يبدو أن عدوه اللدود “شيبو الإفريقي” لاقى المصير نفسه، فهو -على الرغم من الانتصار الذي قدمه لوطنه روما- اتّهِم باختلاس أموال الضرائب القادمة من قرطاج؛ فإذا به أمام المحكمة يصرخ عاليًا: “أيها الوطن الناكر للجميل، لن تكون لك عظامي”.

تلك هي سردية الملح على أرض قرطاج، وسردية النبي المنسي، وسردية الثورات المغدورة: فكم عطشٍ إلى الوطن يأخذنا دون أن نلجأ إلى السراب!




المصدر
حاتم محمودي