فيلم (عمر) لهاني أبو أسعد مبارزة ذكاء.. وصراع إرادات!



سجل المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، مع فيلمه الثالث (عمر)، نجاحًا جديدًا، أضافه إلى رصيده السابق من فيلميه (زواج رنا) 2002، (والجنة الآن) 2006، وإذا كان فيلم (الجنة الآن) قد أثار -على الرغم من نجاحه- جدلًا واسعًا في الأوساط الفلسطينية وغير الفلسطينية؛ بسبب حساسية موضوعه “فكرة الاستشهادي ودوافعه”، ومقاربة أبو أسعد للفكرة من زاوية مختلفة لم ترق للكثيرين؛ فان فيلمه (عمر) ليس أقل إثارة للجدل أيضًا، لحساسية موضوعه، وطريقة أبو أسعد في مقاربة فكرته فنيًا وفكريًا، وهذا أمر طبيعي، لأن الأعمال الإبداعية المهمة هي أساسًا إشكالية، ومركبة، وقابلة لأكثر من تأويل. هنا تكمن أهميتها، فكيف إذا تناولت مواضيع حساسة، بالمعنى السياسي أو الاجتماعي، كانت حتى وقت قريب من المسكوت عنه، وبرؤية إنسانية جريئة، بعيدة عن الشعارات، والبطولات الوهمية!

مذ عرض فيلم (عمر)، في مهرجان (كان) السينمائي أول مرة، في تظاهرة (نظرة ما)، وهو يسترعي اهتمام النقاد والسينمائيين، ومنظمي المهرجانات السينمائية الدولية، حيث عُرض الفيلم في أكثر من مهرجان دولي، ورُشح لنيل جائزة الأوسكار، لأحسن فيلم أجنبي، وعلى الرغم من استبعاده عن الجائزة؛ لأسبابٍ نعتقد أن بعضها سياسي، فيكفي أنه نافس للوصول إلى تلك المرحلة، وحظي بالمشاهدة والاهتمام على نطاق عالمي، ولا سيما أنه فيلم فلسطيني بامتياز، بمخرجه، وممثليّه، وطاقمه الفني، وتمويله من رجال أعمال فلسطينيين، وكذلك بتصوير معظم مشاهده في الضفة الغربية؛ الأمر الذي منح صانعي الفيلم الاستقلالية والصدقية، على الرغم من بعض أجواء التوتر، كما لمّح مخرج الفيلم.

يؤكد نجاح العروض الجماهيرية للفيلم على أهميته، وحبكته الدرامية المشوّقة، سواء على صعيد الحوار أو الصورة السينمائية، حيث الكادر مرسوم بعناية، لكي تصل الرسائل والدلالات بسلاسة إلى المشاهد. على سبيل المثال نرى “عمر” الشخصية الرئيسية في الفيلم (تمثيل آدم بكري) يتسلق الجدار الفاصل بين مكان إقامته وإقامة حبيبته، بهمة عالية وحيوية، في بداية الفيلم، على الرغم من تعرضه للمخاطر من قبل جنود الاحتلال؛ بينما يعجز لاحقًا عن تسلق الجدار، بتأثير تدمير رجل “الشاباك” لمعنوياته، خلال محاولة توريطه في التعامل الأمني معه. مثل هذه الدلالة تكثف الكثير مما يريد الفيلم قوله، كذلك توحي مشاهد الدهاليز الضيقة، في أثناء ملاحقة عمر، كم هي خانقة وضيقة، وفي المقابل ثمة إشارات على تعاطف الحاضنة الشعبية، حينما تُفتح أبواب البيوت أمامه، لكي يختبئ وينجو من ملاحقة جنود الاحتلال.

تنهض حكاية الفيلم على خطين متوازيين، يتشابكان، ويتداخلان مع تطور الأحداث الدرامية: الأول هو علاقة حب رومانسية تجمع بين الشاب عمر الذي يعمل خبازًا، وبين فتاة شابة ما زالت على مقاعد الدراسة، حيث يفصل الجدار العنصري بين هذين الشابين وحبهما الحالم، وفي هذا السياق، يبدو الجدار ليس مجرد حائط إسمنتي قبيح، بل حاجزًا يمزق العلاقات الإنسانية، ويضاعف معاناة البشر، ويحجب التواصل الطبيعي بينهم. الخط الثاني هو مشاركة عمر -كأي شاب فلسطيني- في مقاومة الاحتلال؛ ومن ثم ملاحقته واعتقاله، وتعرضه لشتى أنواع التعذيب، بسبب صموده وعدم اعترافه بما لديه من معلومات. يفاجئه المحقق، بل يصعقه، حينما يخبره بمعرفتهم بأدق التفاصيل عن حياته، بما في ذلك أسرار علاقته بحبيبته، شقيقة “طارق” قائد مجموعته، ومن ثم يبدأ رجل الشاباك مساومته، والضغط عليه للتعامل الأمني معهم، حيث يكشف الفيلم عن الآليات التي يتبعها الاحتلال في تجنيد العملاء.

يقرر عمر القبول التكتيكي بالمساومة، بغاية كشف العميل الحقيقي بينهم، لكن ليس من السهل كشف الحقيقة؛ إذ إن هذه الطريق مليئة بالأفخاخ والشكوك والشبهات التي راحت تدور حوله، حتى إن حبيبته ذاتها تقتنع بأنه بات عميلًا، ولم تعد تصغي إليه، بينما العميل الحقيقي، ومن ورائه الشاباك، يحوك خيوط اللعبة ويزيدها تعقيدًا، في اللحظة التي يصل فيها عمر إلى كشف العميل الحقيقي “أمجد”، ويجبره على الاعتراف بتورطه، بما يكتنف ذلك من حس مأسوي، ومشاعر متناقضة، وضغوط نفسية، وفقدان للثقة.. في تلك اللحظة كان من الممكن أن ينتهي الفيلم؛ بَيد أن مثل هذه النهاية ستكون بائسة ونمطية؛ لذا، لا يقف الفيلم عندها، باعتبار أن العميل -على الرغم مما يستحقه من عقاب- هو في نهاية المطاف ضحية الاحتلال وأجهزة الأمن (رأس الأفعى)، ومصدر كل المظالم، ولحلّ هذه الإشكالية، في سياق درامي منطقي ومتماسك؛ تأخذ الأحداث منحى مبارزة ذكاء، وصراع إرادات، بين رجل الأمن وعمر (الشاب المقاوم) الذي يحرص على إعادة الاعتبار لذاته، والبرهنة على براءته، بكشف العميل الحقيقي “أمجد”، أمام طارق قائد مجموعة الكتائب.

تتطور الأحداث بمنحى آخر ومفاجئ، حينما يُقتل طارق قائد المجموعة خطأً، من جرّاء غضبه ومحاولته قتل العميل، ولا سيما بعد أن يصرح الأخير كذبًا بأنه على علاقة مع حبيبة عمر (شقيقة طارق) وهي حامل منه؛ وبالتالي تأخذ الأحداث منحى احتمال فضيحة اجتماعية، تضيف تعقيدًا جديدًا للمشهد.

يفكّر عمر، بما تنطوي عليه شخصيته من نبالة، بالرغم من الآلام النفسية التي تلحق به، وبالرغم من غضبه ونفوره الشديد من العميل، بخطة للخروج من المأزق، بأقل الخسائر المعنوية الممكنة، فيفرض على أمجد التقدم لخطبة الفتاة درءًا للفضيحة الاجتماعية، ويقرر تسليم جثة طارق إلى الأمن في مناورة لكسب ثقتهم، ويطلب إبقاءها في البراد مدة شهرين قبل تسليمها، بذريعة كسب الوقت لتغطية نفسه، وبما أن صلته مع حبيبته السابقة انقطعت، لا يكتشف كذب وخداع أمجد الذي ادعى أنها حامل منه، وفي الوقت ذاته تستغرب الفتاة موقف عمر، وتظن أنه نفر منها؛ لأنها صدّقت الإشاعات حول عمالته للاحتلال، فوافقت على الزواج من أمجد مكرهة.

يمر زمنٌ، يحاول عمر خلاله ترميم شروخه النفسية؛ إلّا أن أجهزة أمن الاحتلال لا تتركه في حاله؛ فيعاودون الضغط عليه، وفي هذه المرة يريدون رأس قائد مجموعة الكتائب الجديد الذي حل مكان طارق، ومن جهته يطالبه هذا الأخير بمساعدتهم لحل لغز استشهاد طارق، وأسباب إخفاء جثته قبل تسليمه. النقلة الأخرى في الأحداث هي اكتشاف عمر، من خلال لقاء عرضي مع حبيبته السابقة التي أصبحت أمًا لولدين، أنها لم تكن على علاقة مع أمجد، وأن قصة حملها غير الشرعي منه، كلها كذب وتلفيق لا أساس لها.

يشعر عمر، مع تطور الأحداث وتشابكها، بأنه أمام مفترق طرق، ولا مفر من المواجهة، وإلّا؛ فسيسقط ويصبح عميلًا فعليًا لأجهزة الاحتلال، فيقرر المواجهة –على طريقته- من خلال مبارزة ذكاء وقوة إرادة، ولا سيما أنه أمام رجل أمن متمرس وذكي أيضًا، ويستند إلى مؤسسة تمتلك كل أدوات القوة.

يحبك عمر خطة توحي لرجل الأمن بالثقة، ويطلب منه مسدسًا لكي يأتيه برأس قائد الكتائب الجديد، ولأن الخطة لا تكتمل إلا بكشف العميل الحقيقي؛ يُسلّم أمجد للكتائب باعتباره العميل المسؤول عن مقتل طارق، ولكي يثبت براءته ينجح باغتيال رجل الأمن الإسرائيلي، ومن الطبيعي أن يدفع حياته ثمنًا للبرهنة على براءته.

الحبكة البوليسية في الفيلم مشغولة بطريقة فنية مشوقة، ومقنعة تعتمد على إشارات صغيرة دالة في سياق متسلسل ومنطقي، حيث تنتصر مقولة الفيلم لذكاء الضحية، وإرادة المقاومة أمام الآلة الجبارة التي يمتلكها العدو… وكل ذلك بلغة سينمائية رفيعة المستوى، وبعيدة عن الشعارات المستهلكة. قد لا تعجب هذه المقاربة السينمائية البعض، لكن للفن لغته الخاصة، وهذا ما فعله هاني أبو أسعد!

يبقى القول: إذا كان فيلم (عمر) يهدف إلى كشف آليات عمل “الشاباك” الإسرائيلي في تجنيد العملاء، واختراق الفلسطينيين، وخلخلة الثقة بينهم؛ فبماذا يمكن توصيف ما فعلته أجهزة أنظمة الاستبداد العربية بشعوبها، من قتل وتدمير وتخريب للقيم، وتشويه للنسيج الاجتماعي والإنساني!




المصدر
علي الكردي