مسألة كردية في الثورة السورية أيضًا



أتت انتخابات المجالس المحلية التي جرت في المناطق التي تسيطر عليها (قوات سورية الديمقراطية)، بقيادة (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، والتي يفترض أن تفضي، مطلع العام القادم، إلى إنشاء “المؤتمر الديمقراطي الشعبي” لفدرالية شمالي سورية؛ أتت كي تؤكد على وجود “مسألة كردية” في الثورة السورية أيضًا. ولكن يبدو أن عدوى النظام الاستبدادي انتقلت إلى المعارضة، أو كأن النظام نجح في تعميم ثقافته، حتى على أوساط في المعارضة.

اتخذت أوساط المعارضة، ولا سيما كيانها الرسمي (الائتلاف)، مواقفَ استنكارية وضدية ضد هذه الانتخابات، ففي بيان أصدره “الائتلاف” (21/9)، تحدث عن “انتخابات مزعومة يحاول (حزب الاتحاد الديمقراطي) تسويقها لتمرير مشاريعه.. وإصراره على إجرائها، مستخدمًا كافة وسائل الترهيب المستوحاة من أساليب عصابة الأسد.. بحق أبناء الشعب”. مع تأكيده أن “أي خطوة في اتجاه مستقبل سورية لا بدّ أن تنطلق من… احترام حق الشعب السوري في الاختيار الحرِّ..”، وأن “الإصرار على تسويق أي خيار استباقي، بالقوة والإكراه، في توقيت مقصود -سواء جاء تحت اسم انتخابات محلية أو بلدية أو في ظل عناوين أخرى- هو انتهاك لحق الشعب السوري في تقرير مصيره ومستقبله، كما أنه محاولة واضحة للالتفاف على نضال السوريين الطويل، في سبيل الحرية والكرامة”.

مهما كان رأينا بـ (قوات سورية الديمقراطية) ودرجة هيمنة (قوات حماية الشعب) أو حزب (ب ي د) الكرديين عليها؛ فإن المناطق الخاضعة لهذه القوات (20 بالمئة من مساحة سورية) يفترض أن تدفع أوساط المعارضة إلى مراجعة حساباتها، في شأن التعامل مع المسألة الكردية في سورية، وأن تقدم مقاربتها لها في هذا الشأن. أولًا، باعتبارها مسألة وطنية سورية، لا باعتبارها أمرًا يخص الإقليم أو مصالح بعض دول الإقليم. وثانيًا، باعتبارها مسألة لا تتعلق بحقوق المواطنة فحسب، وإنما، أيضًا، بوجود شعب، أو جزء من شعب آخر، له حقوق جمعية، ينبغي الاعتراف بها ومراعاتها في الدستور السوري القادم، وفي سورية المستقبل، في دولة مواطنين متساوين وأحرار، وديمقراطية لا يوجد فيها أكثريات وأقليات على أساس هوياتي، لا ديني ولا طائفي ولا مذهبي.

من المعلوم أن المعارضة تأخرت في هذا الشأن، لقصور إدراكاتها للمسألة الكردية، ولشكل سورية المستقبل، ولأسباب تتعلق بحساباتها وارتهاناتها الخارجية، وأيضًا لأسباب حصر الثورة تبعًا لحسابات ضيقة، هوياتية أو أيديولوجية.

طبعًا ثمة مآخذ كثيرة على (قوات سورية الديمقراطية)، و(قوات حماية الشعب) و(حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، في المواقف والممارسات، وانتهاج القوة، والتفرد في الخيارات، بيد أن هذه المآخذ تكتسب مزيدًا من شرعيتها، ومن صدقيتها في حال جاءت متسقة مع الحالات المماثلة، أو الأشد خطرًا، والتي طبعت الثورة السورية، طوال الفترة الماضية، بطابعها.

في هذا الإطار، قد يمكن القول إن وضع المناطق التي تسيطر عليها (قوات سورية الديمقراطية) أفضل حالًا من كثير من مناطق تسيطر عليها بعض فصائل المعارضة. فطوال المرحلة الماضية، شهدنا دأب بعض أوساط المعارضة على التنديد بمواقف وممارسات (ب ي د) وقوات (قسد)، في حين أنها سكتت بل جاملت ممارسات ومواقف بعض الفصائل المسلحة الإسلامية، التي أضرّت بالمعارضة وبالسوريين، وبصدقية ثورتهم، وحتى مواقف (جبهة النصرة)، بالكاد تجد بيانًا يدينها، أو يدحض منطلقاتها الفكرية المتطرفة المضرة بالإسلام والمسلمين، والتي جرّت عواقب خطيرة على السوريين وثورتهم وعلى التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، على الرغم من أن هذه الجبهة لا تحسب نفسها على الثورة، وهي اشتغلت على مقاتلة الجيش الحر والتنكيل بالناشطين السياسيين، وفرض تصوراتها المتطرفة عن الإسلام بالقوة على مجتمعات السوريين.

معلوم أن معظم هذه الفصائل نكّل بالناشطين السياسيين، ولم يسمح للمعارضة بفتح مكتب ولا توزيع جريدة، ورفع أعلامًا خاصة به بدل علم الثورة، فضلًا عن أنها شكلت ما يُعرف بـ “هيئات شرعية”، تفرض رؤاها الضيقة عن الإسلام على السوريين، وناهضت في المقابل أي محاولة لتشكيل مجالس محلية منتخبة. وفي المحصلة؛ فإن معظم هذه الفصائل شكل حالة انشقاقية عن الثورة، منذ البداية، وحمّلها فوق ما تحتمل بطرق عملها العسكرية وبارتهانها للخارج، وبانزياحها عن مقاصد الثورة المتمثلة بالحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية.

مع ذلك، يجب انتقاد ممارسات ومواقف (قسد) و(ب ي د)، وانتقاد خياراته الأحادية، لكن كي يستقيم ذلك؛ علينا انتقاد الفصائل العسكرية الأخرى، وقد يجدر التذكير بأن من أهم مشكلات الثورة السورية، انعدام الثقة المتبادل بين كيانات المعارضة السورية والقوة الأساسية المهيمنة في مجتمع الأكراد السوريين، وهي (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وذراعه العسكري (قوات حماية الشعب)، التي تُشكّل عماد (قوات سورية الديمقراطية)، والتي باتت تحظى بدعم ورعاية أميركيين. والمشكلة أن الطرفين، أي معظم المعارضة، والحزب الكردي المذكور، لم يبذلا الجهود الكافية والمناسبة لتعزيز الثقة بينهما، عبر تذليل الالتباسات والخلافات الحاصلة، طوال الفترة الماضية.

مفهوم أن (حزب الاتحاد الديمقراطي) ظلّ موضع شبهة، في علاقته مع النظام، وهو ما ظهر سابقًا في بعض تحركاته العسكرية، وفي إبقائه مراكز النظام في المناطق التي يسيطر عليها، كما في علاقته مع (حزب العمال الكردستاني) في تركيا، إضافة إلى أن هذا الحزب ظل يعمل بطريقة إقصائية، وأحيانًا تعسفية، في المناطق التي خضعت لسيطرته، وفي علاقته مع القوى الكردية المختلفة معه، وحتى في نأيه بذاته عن المعارضة السورية، لكن المعارضة، أيضًا، مسؤولة عن ذلك، فهي لم تشتغل باعتبارها ممثلة لكل السوريين، عربًا وأكرادًا، ولم تشتغل وفقًا لمصالح السوريين جميعًا، بحكم ارتهانها لهذا الطرف أو ذاك، ما يعني أن الطرفين معنيان بترميم هذا الوضع، وتلافي قصور كل منهما، ومعنيان بمراعاة المتغيرات والحقائق الجديدة، وضمنها المواجهات بين (قوات سورية الديمقراطية) من جهة، وقوات النظام و”الحشد الشعبي” (العراقي – الإيراني) من جهة أخرى.

لذا؛ وفي ما يخص المجالس التمثيلية، ربما الأجدى أن تبني المعارضة السورية على ما يحصل، خصوصًا أنه سيغدو أمرًا واقعًا على الأرجح، لا سيّما أنه لا بد من وجود مجالس تمثيلية منتخبة لإدارة المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، بغض النظر عمّن يسيطر فيها عسكريًا. وهذا ينطبق على طرح مسألة “الفدرالية”؛ إذ إن المعارضة، أو معظمها، أبدت رفضها هذا الطرح لمستقبل سورية، إما لأن جهة كردية تطرحه، وإما لجهلها بمعنى الفدرالية وظنّها أنها صنو التقسيم. ولعل أهم ما يفترض أن تدركه المعارضة أن الحديث عن وحدة سورية الجغرافية لا معنى له من دون وحدة السوريين، بمختلف مكوناتهم، الدينية والمذهبية والإثنية والمناطقية، وأن هذه الوحدة تتطلب حتمًا تصورًا وطنيًا ديمقراطيًا، يستجيب لرؤى ومصالح كل تلك المكونات، بلا استئثار وإقصاء، ومن دون فرض طرف لوجهة نظره على الآخرين، مع إدراك أن الفدرالية تعزز وحدة البلد والمجتمع، لأنها تعني توزيعًا أفضل وأنسب للموارد، وإدارة أفضل وأجدى من الإدارة المركزية، ولكونها الشكل الأنسب للحؤول دون إعادة إنتاج السلطة المركزية التي تفضي إلى الاستبداد، لا سيّما أن المقصود فدرالية على أساس جغرافي، وليست على أساس طائفي أو إثني.




المصدر
ماجد كيالي