حضانة في مقرّ العمل = أمهات أكثر إنتاجاً وأقل غياباً وأصفى ذهناً




جرى العرف أن تستعرض الشركات قدراتها الإنتاجية وتفاخر بتقاريرها الاستراتيجية وتعقد المؤتمرات لتتحدّث عن عوامل النجاح المتمثلة في موازنات ضخمة، أو ساعات عمل ذات إنتاجية قصوى، أو جيش من العمال والموظفين يتسم بعضلات كبرى وتفانٍ في العمل أو ما شابه. لكن أن تتحدّث الشركات عن حضانات لأبناء العاملين والعاملات باعتبارها من أبرز عوامل النجاح ومسببات الاستمرار ورفع الإنتاجية فهذا هو الجديد.

جديد عالم المال والأعمال والشركات والقطاع الخاص يشير إلى عودة إلى القديم والأصيل والطبيعي والإنساني لمن أراد مزيداً من النجاح. التقرير الأحدث الصادر عن مؤسسة التمويل الدولية (ذراع مجموعة البنك الدولي المعنية بالقطاع الخاص) والذي حصلت «الحياة» على نسخة منه، يشير إلى أن الشركات التي تقدّم خدمات رعاية الأطفال الصغار لموظفيها وجدت أن لهذه الخدمات أثراً إيجابياً بالغاً على أعمالهم، إذ تحسنت عملية التوظيف، واستمرار العمالة، وإنتاجية العمال والموظفين.

يعاني العمال والموظفون حول العالم بدرجات متفاوتة من قلة الخدمات المقدّمة لهم في ما يتعلّق بصغارهم. ووفق تقرير صادر العام الماضي عن منظمة «يونيسيف»، فإن أقل من واحد بين كل أربعة أطفال دون سن الخامسة في جنوب آسيا وأغلب أفريقيا ينتفع من برامج ما قبل المدرسة. كما أن المصادر التقليدية لرعاية الصغار دون سن المدرسة حيث الأهل والأقارب القريبون من الأب والأم تتضاءل بسبب انخراط مزيد من النساء في العمل، إضافة إلى تشتت الأسر الممتدة واضطرار الأزواج والزوجات الجدد إلى الابتعاد عن مناطق تجمّع الأسرة بحثاً عن العمل.

في الوقت ذاته، تبقى خدمات رعاية الصغار الرسمية خارج متناول أيدي الموظفين والعمال من أصحاب المداخيل المتدنّية والمتوسّطة لا سيما في البلدان النامية. وتؤثر هذه الصعوبات في اختيارات الأهل، لا سيما النساء، في ما يتعلّق بفرص العمل، إذ يتحتم عليهن البحث عما تمكنهن من الجمع بين عمل خفيف ورعاية الصغار. وتشير إحصائية صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة في عام 2015، إلى أن 4 في المئة فقط من النساء في البلدان النامية ينتفعن من خدمات الحضانات لسن ما قبل المدرسة. وأكدت 39 في المئة منهن إنهن يرعين أبناءهن في أماكن العمل.

ووفق تقرير «التطرق إلى رعاية الأطفال: مسألة الأعمال في رعاية الأطفال المدعومة من صاحب العمل»، اكتشف رؤساء مجالس الإدارات وقادة الأعمال أن توفير خدمات رعاية الصغار ليس بالعمل المكلف، بل العكس هو الصحيح. فتوفير هذه الخدمة لموظفيهم يؤدّي إلى تحسّن بيئة العمل ورفع الإنتاج ومن ثم الأرباح.

يرتكز التقرير على دراسة معمّقة لـ10 شركات حول العالم في دول متقدّمة ونامية توفر خدمات الرعاية لأطفال موظفيها. وشمل التقرير دراسات حالة من 9 بلدان هي: جنوب أفريقيا وتركيا والولايات المتحدة واليابان والهند والبرازيل وكينيا وألمانيا والأردن.

وأظهرت إحصاءات منظمة العمل الدولية أخيراً، أن 14 في المئة من النساء في الأردن شاركن في قوة العمل في عام 2016، مقارنة بـ64 في المئة من الرجال، ما يجعل هذا البلد ثاني أقل دولة في العالم في نسبة النساء العاملات خارج البيت. وعلى رغم ذلك، فإن الغالبية العظمى من قطاع صناعة الملابس في الأردن يعتمد في شكل رئيسي على الإناث. لكن حوالى ربع العاملات (16 ألف عاملة من بين 65 ألفاً) أردنيات والبقية عمالة أجنبية. ونسبة كبيرة من كل العاملات في هذا القطاع صغيرات في السن وغير متزوجات. وهنا تبزغ المشكلة، فما أن تتزوج إحداهن وتستعد للإنجاب حتى يلوح شبح ترك العمل في الأفق. فكلفة رعاية الصغار في الأردن مرتفعة جداً وليست في متناول هذه الشريحة من العاملات، ما يعني إنها تترك العمل، والتسبب بالتالي بمشكلة لأصحاب المصانع والشركات، حيث إن إحلال عاملة جديدة من دون خبرة مكان من تركت عملها لرعاية صغارها يؤثر سلباً في عملية الإنتاج برمتها.

وفي إحدى أكبر شركات الملبوسات في الأردن، يبلغ عدد العاملات 374 عاملة من بين 406 عمال، أي أن نسبة الإناث تبلغ نحو 92 في المئة 18 في المئة منهن أمهات، وهو ما دفع الشركة إلى تدشين حضانة للصغار إضافة إلى تأمين مواصلات مجانية للأمهات العاملات اللاتي يصطحبن صغارهن إلى حضانة الشركة ورعاية صحية مجانية للأم والأطفال.

تقول إحدى العاملات التي تودّع صغيرها في حضانة الشركة: «قبل افتتاح الحضانة كنت أمشي مسافة طويلة للوصول إلى بيت إحدى قريباتي لأترك صغيري عندها. وحين يمرض كنت أمكث في البيت ولا أتوجه إلى العمل، لا سيما في فصل الشتاء. لكن حالياً أكاد لا أتغيب عن العمل كما إنني لا أستخدم الأيام المتاحة لي للإجازة المرضية أبداً».

نائب المدير العام للموارد البشرية هاني بستاني يقول إن إدارة الشركة لاحظت أثراً آنياً لتدشين الحضانة. فقد انخفضت نسبة غياب العاملات مباشرة. كما أن الساعة المخصصة قانوناً لرضاعة الصغار يحصلن عليها أثناء العمل».

ويخلص التقرير إلى أن تدشين حضانات في أماكن العمل يقلّص نسبة ترك عمال وموظفين لعملهم. ووفق إحدى شركات النسيج في فيتنام، فإن استبدال عامل ماهر بآخر مبتدئ يكلّف 85 في المئة من راتب عام كامل. لكن توفير خدمات رعاية الصغار في هذه الشركة قلّص نسبة ترك العمل فيها بنحو الثلث. كما أن هذه الحضانات تحسّن نوعية المتقدّمين لشغل الوظائف الشاغرة وتسرّع من إتمام إجراءات التشغيل. وهذا ما اتضح من خلال شركات في الهند وأميركا وألمانيا حيث تعمل أمهات في وظائف ومهن لم تكن مألوفة بين الأمهات بسبب ساعات العمل الطويلة ومواقعها غير المأهولة.

من جهة أخرى، فإن وجود الصغار حيث تعمل الأمهات يقلل من نسبة غيابهن جراء مرض هؤلاء أو لظروف طارئة أخرى، كما يساعد ذلك الأمهات العاملات على العمل بتركيز أكبر وحافز أعلى وشعور أكبر بالمسؤولية والانتماء إلى المكان.

ومن وجهة نظر حقوقية نسائية، فإن حضانات أماكن العمل تحسّن من التنوع على أساس النوع وتمهيد الطريق أمام النساء لتبوؤ وظائف قيادية عليا.

وتقول نائب رئيس التمويل المُدمج والشراكات في مؤسسة التمويل الدولية نينا ستويلكوفيتش، أنه من دون المشاركة الكاملة والمتساوية للنساء والرجال، فلا دولة أو مجتمع أو اقتصاد قادر على تحقيق غاياته وبلورة قدراته ومجابهة تحدّيات القرن الـ21. وتضيف أن «رعاية الأطفال جزء من الحل. وبينما شركات عدة تود أن تساعد موظفيها في مجال حاجتهم لرعاية أطفالهم، إلا أنه كثيراً ما تفتقد المعلومات حول ما يمكنها أن تفعله وبطريقة تحقق لها الفائدة».

خدمات رعاية الأطفال إذاً في أماكن العمل محفز أساس ومحوري في النمو الاقتصادي. وحين يتشارك الآباء والأمهات في قوة العمل، يصبحون أكثر قدرة على زيادة مداخيلهم، وتصبح قدرتهم أكبر على تنمية اقتصاد الشركات والدول. أما الصغار، فإن حصولهم على خدمات رعاية مبكرة من عناية صحية وتعليم وتغذية تدفعهم إلى الأداء الدراسي الأفضل والإنتاج الأعلى والأوفر في سن العمل.

يذكر أن واحداً بين كل عشرة من سكان العالم طفل دون سن الخامسة، وحتى ينمو هؤلاء الأطفال ويتطورون فإنهم وأشقاءهم في حاجة إلى رعاية. وعلى رغم ذلك فإن خدمات رعاية الأطفال شحيحة في مناطق عدة، ما يؤثر سلباً في اختيارات الأهل، لا سيما الأمهات في نوعية الأعمال التي يقمن بها خارج المنزل. ولأن الإناث هن من يحملن مسؤولية رعاية الصغار أكثر من الذكور، فإن خدمات رعاية الصغار تعد عائقاً أساسياً يحول دون مشاركتهن الكاملة والمتساوية في مجال العمل المدفوع.

ويكشف تقرير صدر أخيراً عن البنك الدولي تحت عنوان «النساء والعمل والقانون» شمل 50 بلداً، أن قوانين 11 منها (البرازيل، تشيلي، إكوادور، الهند، العراق، اليابان، الأردن، هولندا، تركيا، أوكرانيا وفيتنام) تنص على أن يدعم صاحب العمل العاملين لديه بخدمات رعاية الأطفال.




المصدر