الثورة السورية بين استعادة طورها الصاعد وتداعيات انعدامه



مرت الثورة السورية بمراحل عديدة وبأطوار مختلفة، بل متناقضة أحيانًا، وجرى خلال ذلك تعميم مسميات نُعتت بها للتدليل على خطها العام في كل مرحلة؛ لتبقى الخطوط العامة لتلك المراحل مؤطرة بطورين أساسيين: هما طور الصعود وطور الهبوط. وهذه حال الثورات عبر التاريخ، فالثورة -خلال سيرورتها- ترسم خطها البياني المتصاعد تارة، والهابط تارة أخرى، لأسباب ذاتية وموضوعية، لها شروطها وظروفها، عواملها ومفاعيلها. وإنّ نتاج الجدل القائم ما بين هذين الطورَين (على اعتبار أن كل طور هو فعل تاريخي قائم بذاته، وأنه وُلد من رحم الآخر) هو ما سيحدد النتائج النهائية لهذه الثورة، ووحده من سيرسم ملامح الدولة في طور ما بعد الثورة.

إن كل ما نراه اليوم في الثورة السورية يشير بوضوح إلى طورها الهابط، بل إلى وصولها إلى درجة حرجة من هذا الهبوط، تتكثف ملامحه في العجز عن إيجاد بديل سياسي، يشكل العتلة الناقلة لحراك الثورة من ضفة الانتفاض إلى ضفة التنظيم، ومن ثم تمثيله. وهذا التكثيف لا يعني حصر المشكلة في هذا العجز فحسب، فهناك العديد من المشكلات والإشكالات التي تعطي هذا الطور صفة الهابط، كانحسار الصوت المدني مقابل تمدد وسيطرة الصوت المسلح ومحاولة الأخير -ونجاحه- في السيطرة على مفاصل حياة المناطق الخاضعة لسلطته، وانخفاض الخطاب الوطني مقابل صعود وتنامي الخطابات الفئوية والأقلوية ما قبل وطنية، وإشكالات أخرى تحول دون العمل على هدف جمعي، ينتمي إلى مرجعية الثورة السورية، ويحقق رؤاها، ويلبّي طموحاتها. فما يرافق طور الثورة الهابط من مأساة اليوم ما هو إلا ضريبة لهذا العجز ولهذه الإشكالات، تراوح أثمانها بين غياب دور فاعل للسوريين وابتعادهم -جوهريًا- عن أماكن صناعة قرارهم، وبين دمائهم التي تُسفك بلا طائل، في ظل مجتمع دولي فقهُه “الواقعية السياسية” وهاجسُه المصالح، ولو على حساب دم مدنيين أبرياء.

إذًا؛ فالثورة السورية اليوم أمام استحقاقات كبرى، عليها أن تمثل وتؤسس مقدمات للخروج من تيه الهبوط، وتستعيد مفاعيل العودة إلى طورها الصاعد، وصولًا إلى تحقيق أهدافها. وعلى عاتق جميع أبنائها، تقع مسؤولية صياغة تلك الاستحقاقات على شكل رؤًى وتصورات وبرامج عمل.

إن المراد من هذه الاستحقاقات -في المآل- إعلان القطيعة مع المسببات المؤدية إلى طور الهبوط، وإحلال أولويات تصب في تمكين نقائضها، ويمكن إيجاز ذلك بـ:

1- التأكيد على هدف الثورة السورية، ألا وهو نيل الحرية والكرامة عبر تأسيس دولة وطنية ديمقراطية حديثة.

2- هي ثورة ضد الاستبداد، والاستبداد ليس حكرًا على الأسد وحسب، (رغم أولويته)، بل على كل من يرفض قبول الآخر، وينتهك حقوقه الإنسانية والمدنية والسياسية.

3- استعادة خطاب الثورة الأصيل، ببعده الوطني المؤمن بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

4- رفض الخطاب “الديني”، والأيديولوجي عمومًا، كي لا يُستخدمان ويُستثمران ويُوظّفان لأهداف سياسية.

5- رفض السلاح المرتهن لأجندات لا وطنية.

6- سيدفع ما سبق إلى الاستحقاق الوازن والمتمثل في: العمل على فرز وبلورة كيان سياسي وطني موحد، يمثّل بديلًا عن “نظام” الأسد؛ يقود الثورة ويقود نضالها ويدأب لتحقيق مصالحها.

بالإشارة إلى ما سبق ولحظه؛ فإن رفض منتهكي الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورفض الخطاب الديني والأيديولوجي الذي يُجيَّر لصالح مستخدميه بعيدًا عن مصالح الثورة، ورفض السلاح المرتهن لأجندات الممولين؛ سيجعلنا نرفض جزءًا لا بأس به من الثورة حاليًا، وحين نرفض ذلك وهؤلاء؛ فإننا -جوهريًا- نرفض الطور الهابط للثورة ومفاعيله، وهذه الرفض حتمي؛ إذا ما أردنا الانتقال إلى طور صاعد لها.

في إطار أهمية وضرورة الاستحقاق المتعلق بإيجاد جسم سياسي، يعبّر عن الثورة ويقودها؛ قُدّم العديد من المبررات التي تقلل من شأن أهمية هذه الخطوة، مفادها: أن الثورة تعبت وأُنهكت بعد سنواتها الست، وتداخلت مع الحرب والصراع في/ على سورية، ومن المجحف أن نطالبها بعد كل ما شهدته من إرهاصات داخلية، وجرائم طُبقت بحقها من قبل الأسد وحلفائه، بفرز وبلورة كيان سياسي، يعبّر عنها ويحقق مطالبها وطموحاتها. والرد المُستقرأ من خلال سياق واقع الثورة العياني يقول: إن من المؤسف أنّ المأساة ستستمر بقبحها، طالما لم يعمل السوريون على إيجاد بديل سياسي، وعلى إجماعٍ على هدف وطني واحد، ومن الحمق انتظار من يقوم بذلك نيابة عنهم.

أخيرًا، إن المطالبة بالعمل لاستعادة الطور الصاعد للثورة السورية، هو برسم كل السوريين الحالمين بالحرية والكرامة، على اختلاف مكوناتهم الهويّاتية وأماكن توزعهم الجغرافية (داخل سورية وخارجها)، وهذه المطالبة تأتي في سياق قراءة واقع الثورة بما آلت إليه، والاحتمالات المقبلة عليها سورية من جرّاء ذلك، والتي لا تليق -أولًا- بما قدمه السوريون من تضحيات جسام، ولا بعراقة تاريخهم وثقافتهم، ولن تسرّ نتائج تلك الاحتمالات المقبلة المؤمنين بالثورة “أو غير المؤمنين بها” ثانيًا. وثالثًا؛ نحن لسنا في عام الثورة الأول أو الثاني، أي أن ملامح الكارثة الآتية -في حال استمر حالنا على ما هو عليه- باتت واضحة، وليس التقسيم أقبح وجوهها، فالقتل والتدمير الممنهجان والمطبقان على الشعب السوري لن يكتفيا بالتقسيم، ولن يلبّي جشعهما إلا التفسخ والاندثار، وهذان الأخيران هما بديل الطور الصاعد، في حال تأخرنا أو عجزنا أو عقمنا عن تفعيله وإنجازه.




المصدر
فادي كحلوس