ثورة أم أزمة في سورية – صراع المفاهيم



لا شك أن هناك صعوبات علمية ومنهجية، في تحديد بعض المفاهيم الاجتماعية وضبطها، مثل الثورة و”الأزمة”؛ ويعود هذا إلى تعدد الاختصاصات العلمية التي تتناول هذه المفاهيم (العلوم الاجتماعية، السياسية، التاريخية، الاقتصادية، النفسية)، وأيضًا بسبب التنوع الأيديولوجي للخلفية الفكرية للباحثين أنفسهم في هذه المفاهيم.

لقد عُرّفت الثورة بتعريفات سوسيولوجية شتى، نذكر منها:

عرّفها (ماركس) بإيجاز: “مرحلة من مراحل التطور التاريخي، تكمن في عدم إمكانية استمرار النظام القديم؛ وبالتالي ضرورة استبداله بنظام جديد أكثر فاعلية، يعبّر عن إرادة الشعب”. أما (دوركهايم) فوصف الثورة بـ “ظاهرة الفوران الجمعي”، وهي تعبّر عن تحرك جماعي لا يمكن تجاهله، نتيجة الفقر المزري وغياب الحرية. ورأى (أنتوني جيدنز) أن الثورة طليعة الأساليب غير التقليدية، في الحركات الجماهيرية المنتظمة التي تحدث تغييرات جذرية في النظام السائد. ويعتقد (روجر يترس) أن الثورة تبدأ على شكل احتجاجات، تأخذ بعدًا شعبيًا، تكسر حاجز الخوف، أو ينسى الناس الخوف؛ ومن ثمّ تتحول إلى غضب شعبي عارم، يُطلق عليه صفة ثورة.

من ينظر في هذه التعريفات المتقدمة، فلا بدّ من أن يصف ما حدث في سورية، بدءًا من  15/ آذار 2011، بالثورة، بغض النظر عن بعض المفاهيم الرديفة المتداولة أحيانًا لدى البعض (الانتفاضة السورية، الحراك الثوري.. إلخ). هي ثورة ضد النظام الأسدي الاستبدادي على الصعد كافة، من الاستبداد السياسي، المعروف باحتكار الحكم ومنع أي مشاركة في السلطة، من قِبل الشرائح الاجتماعية المتنوعة والمتعددة الأخرى. إلى الاستبداد الاجتماعي الناتج عن غياب العدالة الاجتماعية، وسيطرة فئة محدودة على المقدرات، وإقصاء غالبية أفراد المجتمع من المشاركة الفعالة في القضايا الخاصة بالمجتمع. إلى الاستبداد الاقتصادي، وهو تركز رأس المال والعوائد المالية عند عدد محدود من الأشخاص على حساب الغالبية؛ وينتج عنه نموذج تنموي مشوه.

بالمقابل، كانت معركة النظام تجاه الثورة شرسة، منذ انطلاقتها في اليوم الأول، من مواجهتها أمنيًا وعسكريًا، بالاعتقال والقتل بالسلاح، إلى اعتبارها مؤامرة كونية ضد محور المقاومة والممانعة.. إلخ.

لم تكن معركة النظام تجاه الثورة معركة أمنية وعسكرية فحسب، بل معركة فكرية وأكاديمية، حيث شن النظام السوري، من اليوم الأول معركة مفاهيمية على العقل السوري وغير السوري؛ بهدف ترويج مفاهيم بديلة عن مفهوم الثورة، تبدو للوهلة الأولى حيادية وموضوعية عند تناولها، وهو نوع من التضليل الفكري والسياسي، يتم عبر زرع أفكار معينة من خلال التضليل والخديعة؛ ثم تضخيم هذه المفاهيم لتصبح -تدريجيًا- هي السائدة في الأوساط الإعلامية والأكاديمية.

والأخطر أن ممارسة هذا التضليل المفاهيمي لم تقتصر على دوائر النظام، وإنما انتقلت إلى نخبٍ ثقافية وأكاديمية بعيدة إلى حد ما عن النظام، بل إلى دوائر تصف نفسها بالمعارضة، ولا سيّما بعد انتقال الثورة السورية إلى مرحلة الحرب العسكرية؛ لتنتقل هذه المفاهيم إلى أوسع دائرة من الناس قدر الإمكان، من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة. والهدفُ الأول والأخير هو الابتعاد عن تداول المفاهيم الحقيقية، وإحلال مفاهيم أخرى محلها، تؤدي إلى سلوك يتفق مع مصالح النظام وأهدافه.

عمد النظام السوري إلى ترويج مفهوم “الأزمة”، كبديل عن مفهوم الثورة، على صعيد الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي، ولوحظ في انتشار الأبحاث والدراسات المختلفة السورية وغير السورية، استخدامُ مصطلح “الأزمة” السورية في السنوات الست الأخيرة، بل انتقل المفهوم بعد فترة من الزمن، وبخاصة بعد الانتقال إلى حالة الحرب إلى أدبيات وكتابات بعض الباحثين المحسوبين على المعارضة السورية، من دون الالتفات إلى الهدف الحقيقي من وراء ترويج هذا المفهوم.

لمعرفة دواعي إطلاق النظام مفهوم “الأزمة” بديلًا عن الثورة، لا بدّ من تحديد مفهوم الأزمة بدقة، فقد جاء في معجم العلوم الاجتماعية أنها “توقف الحوادث المنتظمة، والمتوقعة، واضطراب العادات والعرف، مما يستلزم التغير السريع لاستعادة التوازن، ولتكوين عادات جديدة أكثر ملاءمة”. أي إنها نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها الفرد أو الأسرة أو الجماعة، أو المجتمع. لها كل خصائص المشكلة، من حيث وجود القصور في التوظيف الاجتماعي، وعدم استطاعة الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو المجتمع سدّ هذا القصور بإمكاناتها الذاتية، وهذا ما يدفع بهم إلى طلب المعونة المتخصصة (نفسية، اجتماعية، مادية.. إلخ).

فالأزمة التي تعني “التحول الفجائي عن السلوك المعتاد”، تنطوي على معانٍ تحيل إلى سلسلة من التفاعلات؛ يترتب عليها نشوء موقف مفاجئ ينطوي على تهديد مباشر للقيم أو المصالح الجوهرية لأحد أطراف الصراع (أفراد، جماعات، مجتمعات)؛ ما يستلزم اتخاذ قرارات سريعة في وقت ضيق، وفي ظروف مضطربة؛ حتى لا تنفجر الأزمة في شكل صدام أو مواجهة (بخاصة المواجهة العسكرية، في حالة كون أطراف الأزمة جماعات). وعادة ما تتم مواجهة الأزمة بإدارتها، أو بالتلاعب بعناصرها المكونة لها وبأطرافها؛ بهدف تعظيم الاستفادة من ورائها لصالح الأمن الوطني.

استنادًا إلى التعريفات السابقة لمفهوم الأزمة؛ يمكن القول إن مظاهر الأزمة التي يتحدث عنها النظام ناتجة عن الطريقة الهمجية التدميرية التي واجَه فيها الشعبَ السوري في ثورته ضده، وهكذا أراد النظام الهروب من الحديث عن الثورة السورية واستحقاقاتها، إلى الأزمة ومظاهرها الناتجة عن حرب النظام ضد ما يسميه بالتنظيمات الإرهابية.

في أحسن الأحوال، أصبحت الثورة السورية “أزمة”، بالمفهوم الدولي، كما أراد النظام السوري لها أن تكون، مرتبطة بمجموعة من الأطراف السياسية والعسكرية المتصارعة التي يُفترض بها الجلوس معًا حول طاولة واحدة؛ لتتحاور، وتتفاوض، وتلتقي في منتصف الطريق؛ للوصول إلى حلول وسطية ترضي الجميع! لذلك كانت مؤتمرات جنيف وأستانا تكريسًا لكسب النظام معركته المفاهيمية، بإزاحة فعل “الثورة” جانبًا.




المصدر
طلال المصطفى