‘كتّاب عرب: لا للإرهاب الفكري ومصادرة الخيال’
29 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
وقّع العشرات من الأدباء والكتّاب والمثقفين العرب، قبل أيام، على بيان نشر على شبكات التواصل الاجتماعي، يدين مصادرة السلطات الليبية (حكومة الوفاق)، كتاب (شمسٌ على نوافذ مغلقة: مختارات من أعمال الأدباء الليبيين الشباب) الذي جاء في (543 صفحة)، وحرّره خالد مطاوع وليلى نعيم المغربي، ويتضمن نصوصًا لـ 25 كاتبًا وكاتبة، أُنجزت بعد ثورة 17 شباط/ فبراير التي أطاحت بحكم معمر القذافي. هذا الحدث ليس الأول من نوعه في المشهد الثقافي العربي، ففي شباط/ فبراير الماضي قرر النائب العام الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة، منع ومصادرة رواية (جريمة في رام الله) لمؤلفها عبّاد يحيى، بدعوى أنّ الرواية تضمنّت مصطلحات “خادشة للحياء العام”!
الإرهاب الفكري ومصادرة الحريّات العامّة وسياسة تكميم الأفواه، إرث سلطوي عربي بامتياز، فالسلطة هي السلطة في كل زمان ومكان، عدوة للفكر والإبداع. وكما تم اليوم مصادرة كتاب في ليبيا، ومنعت رواية في رام الله، تعرض من قبل الكاتب المصري أحمد ناجي للحبس بسبب روايته (استخدام الحياة)، بعد اتهامه بالتهمة ذاتها “خدش الحياء العام”!، كذلك اعتقل الكاتب الأردني أيمن العتوم من قبل المخابرات الأردنية في عمّان، في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بسبب روايته (حديث الجنود)، وإن اختلفت التهمة. وقبلها بأشهر حكم على الشاعر الفلسطيني أشرف فياض بالإعدام في السعودية من أجل قصيدة، ليخفف الحكم فيما بعد، إلى السجن ثمانية أعوام مع الجلد. وفي المغرب الأقصى تعرض الروائي الراحل عزيز بنحدوش (توفي غرقًا نهايات العام الماضي)، للمحاكمة بسبب روايته (جزيرة الذكور)، هذه الحوادث وغيرها الكثير من حكايات قمع النصّ وتكميم الأفواه في عالمنا العربي، دعتنا في (جيرون)، إلى التوجه إلى عدد من الكُتَّاب العرب، لنعرف رأيهم بمصادرة الخيال من قبل الأنظمة الحاكمة في بلداننا العربية؛ فكان هذا التحقيق.
الكاتب والشاعر الفلسطيني عمر شبانة: دعوة إلى “هتك الحياد العام”.
نحن حيال قضية الحريّات، في صورها وأشكالها المتعددة والمختلفة، من جهة، ومن جهة مقابلة ثمة رغبة السلطات، بمختلف أشكالها الاجتماعية والدينية والسياسية الحاكمة، في قمع هذه الحريات؛ لتحجيم وعينا، وتكريس هيمنتها على مجتمعاتنا.
من جهتي، وبوصفي مشتغلًا في حقل الثقافة، الأدب والفكر والفن، منذ ما يقارب أربعة عقود، لم أسمع يومًا أن عملًا أدبيًا أو فكريّا أو فنيًّا تسبّب في جريمة لاأخلاقية. بل العكس هو الصحيح، إن الجرائم التي تعاني منها مجتمعاتنا، والعالم عمومًا، هي نتاج قمع وفقر وغياب للحريّة واختلال في موازين العدالة، لصالح قوى الشرّ، وتهميش وتغييب لدور الآداب والفنون، أو إلغاء نهائي لهذا الدور.
الأدب والفنون بعامة لها “جمالياتها” التي لا يجوز الاعتداء عليها، فحين نكتب أدبًا؛ علينا محاكمته نقديًا بمعايير الأدب، وليس دينيًا ولا سياسيًا، وأنا ضد خدش “المستوى الجمالي” لما نكتب أو نرسم أو نفكّر. أعني أن نكتب بفضائحية على حساب المستوى الفنّي، ومن أجل الفضيحة الإعلامية والجوائز المتكاثرة. أما ما يسمّى “خدش الحياء”، أو ما كان يسمّيه صديقي الكاتب الساخر الراحل محمد طمليه “الحياد العام”، فهو سلاح في يد “السلطات”، ويتم استخدامه لمزيد من القمع، وهذا “الحياء/ الحياد” لا ينبغي خدشه فقط، بل هتكه ومقاومته، لأنه ليس هو الحياء العامّ، بل هو “الحياء” كما تريده جهات وتيارات رجعيّة ومحافِظة، لا تريد لهذا المجتمع أن “يتغيّر”، أي أن “يتقدّم”.
تبدو لي المسألة متعلقة بطبيعة فهمنا لمصطلحات مثل “الحريّة” و”التخلف” و”التقدّم”، أكثر من تعلّقها بمفهوم “الحياء” أو حتى بالأخلاق. ولهذا؛ فأنا ضد منع الإبداع، ضد مصادرة الحريّة في الإبداع، وضد محاكمة الإبداع بمعايير غير إبداعية، لكنني ضدّ “الفلتان” الذي يتخطّى الحريّة إلى حدود تقع خارج “الأدب”، أي خارج حدود “الإبداع”.
الروائي اللبناني محمد إقبال حرب: “خيال اليوم حقيقة المستقبل”.
خيال اليوم حقيقة المستقبل، وأصحاب الخيال الواعد ثروة إنسانية ترسم أمل هذا المستقبل. ما يبوح به الكاتب الملهم لا ينم عن فكرة فردية أنانية، بل هو بوح يستشفه من أخطار محيقة بإنسانيته ووطنه، راودته بها مشاعره الجماعية؛ لذلك نراه يستشف مخاطر الوجود وآلامه كنذير يصدح في وجدانه، فيحلل الأسباب ليشخص الحالة، ويخطها إلى بني جلدته نذيرًا. ولأنه يحترف المثالية أو يسعى إليها؛ نراه يبحر في بعد آخر باحثًا عن بلسم وترياق. وما إن تلوح بارقة أمل حتى يتجلى فكره عن عمل أدبي أو فني يحدد فيه الوباء ويقترح فيه الدواء. قد لا ينجح كثر في مسعاهم، ولكن نجاح فرد في كل عصر يكفي بأن يرسم خارطة أمل واعدة.
تلك الخارطة يخافها أصحاب الرؤى الضيقة، لأنها تفضح جهلهم، ويرتعب منها التجار والنخاسون الذين يستمدون قوتهم ومناصبهم من وباء المجتمع وآلام العامّة. فكلما أضاء الكاتب شمعة؛ أخافهم نورها، كما تخاف الخفافيش نور الشمس. خيال يرتعد منه رواد الجهل والمنفعة والفساد، فيهبّون جميعًا مستطلعين الخبر حتى يأمنوا شرور الفكر ونور عطاياه. ومتى استشعروا نورًا في ظلماتهم هبوا مستنجدين بالمنع والحجر والمصادرة، تحت عناوين جمّة واهية، تصب في نهر القمع والاستبداد والتسلط.
ما حدث مؤخرًا من مصادرة ومنع كتب إنما يصب في خانة مصادرة الفكر وقمع الحريّات بالحجر على خيال واعد. وهذا الذي يحدث الآن هو بعض من سلسلة مصادرات عربية لعدد وافر من الكُتَّاب، لأسباب عدّة واهية، لا نستطيع أن نستنج منها إلا أن مصير الأمة تستولي عليه قيادات تتسم بالجهل والخوف والفاشية. فمصادرة حريّة الرأي والتعبير جريمة في حق كل مواطن، وقيد دامٍ في معصم كل من يسعى إلى مستقبل أفضل. وأقول: إنّ سياسة تكميم الأفواه وكسر الأقلام قد تؤخر مسيرة الحريّة، لكنها لن توقفها.
الروائي الأردني قاسم توفيق: “منع النشر.. أوديبية الأنظمة”.
لا يجوز أن نقرأ ما تمارسه الحكومات القمعيّة ضد شعوبها على أنه إعلان حرب، أو ترف فتح جبهات جديدة مع الطرف الأضعف، الجماهير، وكأنها لا تعاني من الجبهات العريضة الكثيرة المفتوحة مع هذه الجماهير. كما أن من غير الصحيح أيضًا أن نفترض بأن مثقفي السلطة وأبواقها الناشزة غائبة عن الوعي، أو أنها لا تعرف كيف تدير خيوط اللعبة التي تمارسها لإحكام سيطرتها بثقافتها الرجعية على أعناق الناس.
عندما تصدر الجهات الرقابية قرارًا بمنع نشر أو عرض أي عمل فني وإبداعي، تعلم أن مسوغات المنع ليست مقنعة، وواهية، لكنها تُقدم عليه، وترفع لواء المدافع عن القيم والأخلاق.
كيف يمكن أن نفسر منع رواية بحجة أنها “تخدش الحياء العامّ” في عصر الإنترنيت، والفيديو كليب؟ لا بد أن نعيد التذكير بمأزق القراءة في العالم العربي، وبأن أحسن الكتب العربية توزيعًا، لا يطبع منه أكثر من عشرة آلاف نسخة، حتى لو وصل العدد المطبوع إلى مئة ألف نسخة؛ فهو لن يزيد عن كونه رقمًا عشريًا مجهريًا، أمام تعداد العرب الذي تجاوز ثلاثمئة مليون نسمة.
إن إعلام السلطة الرسمي، والمُشترى، يصل إلى الملايين مجانًا وبسهولة ويسر، ودون العناء الذي يواجهه الكتاب في الطباعة والنشر والتوزيع. ولا شك أن كل ذلك لا يمكن أن يغيب عن وعي إعلام السلطة. إذًا لماذا تقدم على منع النشر؟
تسعى السلطات القمعيّة عند الإقدام على أي فعل يخلف صدىً كبيرًا؛ لتحقيق عدد من الأهداف تكون أهم بكثيرٍ من الفعل الظاهر والمعلن، فهي عندما تمنع كتابًا من النشر، لا يكون همها هذا الكتاب، بل إنها تذكر الناس بأنها هي وليّ الأمر، وأنها تعرف كل صغيرة وكبيرة، وبأنها هي صاحبة الأمر والنهي. أما حقيقة ما تسعى له هذه الأنظمة، فهو توصيل رسالة غزل، وهمسة ناعمة للتكفيرين، والسلفيين، والرجعيين، بأننا وإياكم في خندق واحد، وإن القيم التي تسعون لفرضها على الناس هي القيم ذاتها التي نسعى لتطبيقها. هكذا أقرأ المشهد.
الروائي اليمني محمد الغربي عمران: “لا لحراس الفضيلة وتكميم الأفواه”.
نتابع ما يحدث من احتراب وقتال عنيف في بعض أقطارنا العربية، وفي الوقت ذاته، نتابع قرارات المنع والمصادرة والملاحقات لأعمال إبداعية بين فينة وأخرى.. ونجزم بأن ذلك له صلة وثيقة، فبتكميم الأفواه وبمنع ومصادرة نتاج الكُتَّاب يساهم أولئك الفقهاء والساسة وحراس الفضيلة في المزيد من التجهيل ونشر الفكر المشجع على التسلط والتطرف، ويسهم بتدني الفكر والوعي المجتمعي.
إن الأخلاق تقتضي إطلاق الحريّات، وتشجيع العقول على التحليق عاليًا بفكرها ورؤاها، ونشر الفنون لا مصادرتها ومنعها. فلم تعد تلك الفواصل بين المجتمعات الإنسانية مجدية لعدم نشر فكرها، بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، ولم يعد من يوصفون بحراس الفضيلة قادرين على المنع.
ندين المبدأ الذي يرسخ قواعد المنع والملاحقة، في وطننا العربي من المحيط إلى الخليج. إنه لأمر مخجل أن يظل أولئك المتحكمون في مشهدنا العربي يمارسون عبثهم.. أمر مخجل أن يظلوا في الوقت الذي كان يجب أن يقدَّموا للمحاكمات، برفع قضايا ضدهم إلى النيابات والمحاكم لمواجهة مثل هذا التوجه واستمرار قمع الفكر والإبداع. لا يمكن أن يظل الاتحاد العام للأدباء العرب والمنظمات الإبداعية العربية صامتة؛ ولذلك نتساءل: ما دور مثل تلك المنظمات! وما دور اتحاد الأدباء العرب! إن لم يدافع على الأدباء والفنانين ونتاجهم؛ فإن بقاءه غير مُجدٍ. إدانة كاملة لعمليات المنع والمصادرة وكذلك ملاحقة وسجن الكُتَّاب.. كما ندين صمت المنظمات الإبداعية، وأطالبهم بالكف عن إصدار البيانات الصفراء وسرعة رفع دعاوى على تلك الجهات التي تعبث بالعقل العربي.
الروائي الجزائري الصديق حاج أحمد: “بين خيال الأدب وسلطة القانون”.
ستظل الذهنية العربية تتعامل مع الأشياء بتكلّس عقلي، بعيدًا عن المرونة وترهين الحوادث وتحيينها، وفق سيرورة الزمن.. فمصطلح الحياء والآداب العامّة لدى القانونيين، لا يتحيّن ويتمرّن بخيال الأدب، وواقعية الحياة المعاشة.. فخدش الحياء العام، عند رجال القانون، عندنا في الوطن العربي، يظل ثابتًا في الشارع والأماكن العمومية، كما هو مرصود في تقنيناتهم وتشريعاتهم، دون أن يراعوا استخدام ذلك في الأدب (الرواية، القصة، القصيدة..)، وسبل توظيف ذلك، من أجل تعرية الأديب لهوامش، تحيي هذه الحياة بلا مساحيق.. وهو أمر وجب التفطّن إليه، من أصحاب القانون وأربابه.. والكلام هنا لا يبيح تلك التوظيفات المتعمدة من بعض الكتّاب، للجنس والهراء اللفظي، وجعله طعمًا وسبيلًا لشدّ القارئ، إنما نتحدّث عن إمكانية توظيف ذلك، ضمن سيرورة الأحداث في خطاب النصّ، وتفاعلية ذلك، ضمن معالجة سردية للقضايا. لذلك بات من الضروري على رجال القانون، مراعاة ذلك وتفهمه، أو على الأقل، وضع الأمر موضع الخبرة والاستشارة من طرف القاضي، كما يحدث دائمًا للقضاة، عندما يستغلق عليهم أمر من الأمور ولا يفهمونه، فيعمدون إلى وضع خبرة أو استشارة، من لدن خبير لذلك المجال.
الروائي الفلسطيني أسامة العيسة: “محاربة الثقافة المستقلة”.
أعتقد أن مسألة المنع تتجاوز كل المبررات التي تطرح، وإنما تتعلق بالسلطة وممارستها، وإظهار قوتها، والفئات المستهدفة بالقمع هي أكثر الفئات ضعفًا في المجتمع، مثل باعة البسطات، والكُتَّاب. السلطات كلها تحتاج، بين وقت وآخر إلى إظهار نوع من بسط سلطتها، باستخدام تلك الأساليب في المنع والمصادرة التي تجاوزتها الأعراف العالمية، ويكون الضحايا من الكُتَّاب. ومن دون أن تدري، تظهر هذه السلطات بأنها خارج دائرة التقدم، والتاريخ، والمستقبل.
من الصعب التصديق أن هذه السلطات، عندما تمنع كتابًا تحمي مجتمعاتها، أو فئات منها كالقُصّر الذين يحتاجون أكثر من غيرهم إلى الكتاب، وربما قبل ذلك إلى توفير الخبز، والمسكن لهم، وفي حالة فلسطين يحتاج الشعب الفلسطيني إلى الحماية من بطش الاحتلال اليومي، ويا له من بطش في مجتمع الأراضي المحتلة عام 1967، يوجد 48 رجل أمن لكل مواطن، إضافة طبعًا إلى ترسانة جيش الاحتلال ورؤوسه النووية، وكل مخابرات العالم التي تعمل في هذه الأراضي، ولا يوجد أمن، في حين أنه، وفقًا للإحصاءات الرسمية، فإن من أقل المجتمعات في العالم، من حيث نسبة الأطباء إلى عدد السكان، فلكل ألف مواطن يوجد طبيب، وفي بعض التخصصات (كالعيون مثلًا)، فإن لكل 100 ألف مواطن يوجد طبيب في الأراضي المحتلة، حيث غابت وتغيب السياسات الثقافية للمؤسسة الثقافية الرسمية، القائمة على اعتبارات قد لا تكون ثقافية، وإنما حزبية وارتجالية ومزاجية، تتم المصادرة، لمحاربة الثقافة المستقلة التي تمكنت خلال السنوات السبع الماضية، من تحقيق حضور عربي، في ظل الفشل السياسي المتراكم، وأعتقد أن هذا مزعج جدًا، حتى إننا رأينا كيف أن العديد من المثقفين المستلبين، أو معظمهم الذين أبدوا رأيًا في قضية رواية (جريمة في رام الله) احتاجوا دائمًا إلى التبرير والانتقاص من الرواية، وأحيانًا من صاحبها. لم نسمع من هؤلاء “لا” قاطعة بشأن حريّة الإبداع، وإنما دائمًا كان هناك ثمة لكن، “الرواية تافهة، ولكننا ضد المنع.. الرواية فيها خدش، ورغم ذلك ضد المنع”.
[sociallocker] [/sociallocker]أوس يعقوب