لا أضلع تطال الضفتين…إلى خليل حاوي



متى تصمت المدافع يا ترى!

لم ينضب الرصاص بعد، والقنّاص يزداد ضراوة ومهارة في القتل، الموت سهل حاضر ومتاح، والأرض بشوق دائم لابتلاع الأجساد النحيلة الهادئة، البحر مخمور يفترش مآدب الغرقى، ويترع الأرواح طازجة معربدًا، مع كل جزر ومدّ. بينما السماء باتت مجرد كفن بلا ثمن، مزقته الطائرات.

كيف بعد هذا يا خليل! سيصمت شاعر كاذب أتقن فنون الحُبّ والنحيب؟ ومع كل نبضة رعب تدبّ، يسقط منّا دويّ وضحيّة ومنافق ومناضل، ولنا دويّ وضحيّة ومنافق ومناضل، وعلينا دويّ وضحية ومنافق ومناضل!

متى! والمفتاح الصدئ المعلّق في ضفيرة صبيّة شابت الآن، وذكرى صرير باب الدار في رأسها لم تشب، كيف والبيت تغيّر، والباب تغيّر، والقفل تغيّر، وتغيّرت ملامح الطريق، وحرس الحدود تغيّر؛ وتغيّر وجهها فصارت غريبة في بلد غريب.

كيف بعد أن احتلّت البغال حواضر الخيول التي اغتيلت، هُجّرت، هجّت بليل، أو أوثقت بنِير وكبّلت بجنزير؛ فتسوّد آباؤها ميادين السباق، وصارت رهانات الجميع -كل الجميع- على الحمير.

أين السبيل والجحش قائد القطيع يخطئ في قراءة كلمتين (خط النهاية). كيف وأين سيعلّق الفائزون دبابيس الأوسمة الرابحة، وكل الكل باتوا على ظهور المطايا الهزيلة، عرايا، سبايا! وطغى النهيق على المسامع، بعد أن غاب الصهيل.

لا صبح يأتي، يا خليل، لسنا خفافًا ولا ثقالًا، ولا أضلع تمتدّ لتطال الضفتين، والجسر تصدّع، انهار على وقع طبول الترحيب بالغرباء، والجحش أهدى انتصار سباقات الحمير للغزاة، “ونهر الرماد” فاض حقدًا وسعيرًا وحممًا ولهيبًا.

العابرون ملوّا الانتظار.. رحلوا بعيدًا، أو قريبًا لا فرق هنا. بعضهم آثر النهر كي ينجوَ من الضفتين المؤجّلتين الغارقتين في الضباب، أيضًا لا فرق هنا أو هناك، فالمسافات صارت كلها انتظار. وتبقى رصاصة القناص أوضح الخيارات، وأسرع من خطو موتهم الثقيل، والله لم يملّ من موتنا البطيء بعد، إذًا.. متى، نعبر، الجسر، يا خليل!

كيف، وقد بيعت ضفافنا الأربع، وقبلها سماؤنا، بحارنا وماؤنا بيعت. بلداتنا، حاراتنا، بيوتنا، أجدادنا، آباؤنا، أسماؤنا، أقوالنا بيعت، قلوبنا أكبادنا أطرافنا دماؤنا، أنفاسنا بيعت، هواؤنا، أشجارنا، قمحنا، زيتوننا، ثمارنا بيعت، صار عزيز تيننا فودكا رخيصة! وصرنا نموت ونعلم لاحقًا أننا متنا؛ فتأتي رسائل نعينا إلينا بعد حين.

طوبى إذًا لمن رحلوا في حمأة معركة العبور، ولا بأس بمن قضى في ساح سباقات الحمير. فغدًا سيسجل التاريخ أنّا: نحن -السوريين- “كلنا شهداء”.

ذلك بعد أن نعبر الجسر يا خليل.

“هل كلنا شهداء”؟




المصدر
جهاد عبيد