لمن أحقية المحاسبة؟



على النقيض من الدور الذي يعزوه نظام الأسد إلى نفسه وحاشيته؛ فإن اختيار من يُحاسب ومن يُسامح هو حق للشعب السوري المنكوب من أبناء الثورة من جهة، والمتضررين من المسار الدموي العشوائي الذي اتخذه الأسد وأوصل سورية إلى هذا الحال، من جهة أخرى.
في حين جاءت تصريحات بعض الموالين، من عسكر وسياسيين ومثقفين، والتي خرجت إلى العلن؛ لتُظهر مفهومًا مشوهًا تحمله هذه الشريحة عن المحاسبة وعن المصالحة وعن مستقبل عودة السوريين إلى بلدهم سورية، سواء من خرج منها ناطقًا بكلمة حق منددًا بمجازر ترتكَب بحق أهله، أو من خرج منها  لتجنب عنف الحرب.

فقد جاءت تصريحاتهم تتسم بتهديدات متدرجة، بدءًا بالتهميش، كما نوه أحد أعضاء مجلس الشعب، حين وجه اللوم إلى المسؤولين عن الاحتفاء بأحد الرياضيين السوريين العائدين، أو بالاعتقال، كما أشار أحد فناني السلطة، أو بالتهديد بالموت، كما جاء على لسان عميد في ميلشيات النظام، وهو يحمل سوابق بتقطيع الأوصال والتمثيل بجثامين بشرية.

منح هؤلاء أنفسَهم بهذه التصريحات حقًا لا يمتلكونه، مناقضين كونهم جزءًا من الأدوات التي نكّلت بالشعب السوري، وجهةً من المنتفعين من هذا التدمير، بسلطة أو مال أو نفوذ. بينما تعود أحقية المحاسبة حصريًا إلى غير المتواطئين مع جرائم الإبادة التي تمت ضد السوريين، ومن لم تتلوث أيديهم بالدماء، ولا ألسنتهم وأقلامهم بالتحريض على سفكها، عبر بث الحقد والتطرف.

من هم إذًا هؤلاء الذين تلوثت أيديهم بدماء السوريين والذين يُشار إليهم بالعموم، منذ سبع سنوات؟ هذا السؤال الذي لا يمكن أن يبقى هلاميًا إلى وقت أطول؛ فالتقدم خطوة في طريق العدالة والمحاسبة يستوجب العمل على تحديد الإجابة، بكل جدية ومسؤولية عبر الوسائل القانونية المتاحة للمُخلصين من أبناء سورية، لتقديم لائحة أسماء يتم المطالبة بمحاكمتها رسميًا، بناء على براهين وشهادات موثقة؛ لتعلن على الرأي العام السوري على رؤوس الأشهاد. من أصدر أوامر القتل؟ من أمر بإيقاد محارق بشرية في المعتقلات؟ للعمل على المطالبة بفرض عقوبات مباشرة عليهم أو العمل على منع دخولهم إلى الدول التي تحترم حقوق الإنسان على الأقل، والأهم لتُحفظ هذه الأسماء في ذاكرة الثورة الموثقة التي لن تُمحى ولن تموت، وستورّث من جيل إلى جيل.

ليس ذلك فحسب، فهؤلاء كانوا بحاجة إلى منفذين للقتل ومرتكبين لجرائم التعذيب أيضًا، ومخبِرين في كل زاوية ومفرق طريق. وتوظيف بشر في هذه المهمات هو جرائم إضافية، أدواتها: التحريض الطائفي، وغسل العقول بالإعلام والتزوير، وتوزيع سكاكين الكره والخوف والتطرف الداعية للجريمة من دون رادع، وتسويق وتشريع مفهوم اللامحاسبة لكل من ارتكب جرمًا باسم الطاغية وتحت رايته وفي سبيل نصرته، مناقضًا بذلك كل أعراف البشرية السليمة. فقد أثبت نظام الأسد أن جرائمه ضد الإنسانية لم تقتصر على انتهاك حياة الأبرياء بالقصف، بالاعتقال وبالتعذيب أو بتجريد المدنيين من حقوقهم ومنازلهم وأراضيهم بل تجسدت أيضًا بانتزاع الإنسانية لآخر ومضة من نفوس أتباعه، فهم أدوات تنفيذية تقوم بهذه المهمات.

ليظهر بوضوح أنه لم تعد مؤسسات الدولة هي الحاكمة في سورية، بل ميليشيات وعصابات، لا تلتزم بقانون ولا تحترم مواثيق دولية، وهي لن تختار أبدًا مسار العدالة والمحاسبة طوعًا، وإن كان أحد مطالب المجتمع الدولي هو المحافظة على مؤسسات الدولة السورية؛ فسيحتاج الأمر إلى كثير من المراجعة. ما نحن بمواجهته بواقع الحال اليوم هو ضرورة إعادة بناء هذه المؤسسات وهيكلتها، بعيدًا عن الانهيار المهني والقانوني والأخلاقي المرتبط بالنظام، وضرورة تسليم المفاصل الفاعلة لمن لم ينجرف في تيار الهمجية، وحافظ على أدنى معايير المهنية والانضباط بالقانون، وإعادة ضخ الكفاءات غير المرتبطة بنظام الأسد، والتي غادر معظمها سورية خوفًا من بطشه.

ختامًا؛ إن العدالة تبدأ بالاعتراف بالجريمة وتوصيف مدى الضرر الذي لحق بالضحايا، والضحايا هنا هم الشعب السوري كاملًا، الذي وضعه الأسد تحت وطأة وجوده، فكيف تستقيم ادعاءات المصالحة الواهية، وأمين سر لجنة النظام للمصالحات لم يتجرأ يومًا على الترحّم على أرواح أبنائنا وأهلنا الذين قضوا تحت قصف حلفاء الأسد، لكنه ترحم على المرتزقة من كافة الجنسيات الذين ساهموا في قتل السوريين دعمًا لحكومته. في مقابل هذا التجبّر؛ سيترحم أبناء الثورة، إضافة إلى حزنهم، على كل الشهداء والمعتقلين والمغيبين منهم، وسيترحمون أيضًا على مئات الآلاف من الشباب السوريين الذين اقتيدوا ضحايا مجندين للدفاع عن طاغية في أسوأ ظروف ممكنة، وسيطالبون بمحاسبة مَن دفعهم إلى الموت المجاني هم أيضًا؛ لأن الثورة السورية هي ثورة عدالة وكرامة إنسانية، فُقِدت من سورية منذ خمسين عامًا، ويجب أن تُحيا؛ لتَحيا بها أجيال قادمة.




المصدر
سميرة مبيض