محافظة الرقة وفلسفة اللاعنف
30 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
لست بصدد عرض كتاب (فلسفة اللاعنف)، للكاتب ديفيد مكرينولدز؛ علمًا أنه من الكتب المهمة، وهو الذي فتح لي باب الكتابة في هذا الموضوع؛ فالكاتب يستند إلى تجربته في الحركة السلمية، وقراءته العميقة لحركة غاندي، ومارتن لوثر كينغ الابن، ومعرفته الوثيقة بالإنجيل والفلسفات المناوئة للعنف. ولم يتطرق إلى العنف المنظّم الذي تقوده الدول العظمى، تحت مظلة الأمم المتحدة في العصر الحديث! ولا عجب في ذلك؛ فالكتاب ابن تاريخه.
قبل أن يتحول اللاعنف إلى فلسفة، شهدت ساحات العنف الكثير من الحركات المناوئة لها بطريقة سلمية، بعض تلك الحركات أخذت حقها من الدراسة، والكثير منها طواه النسيان؛ لأن مساحته الجغرافية أو البشرية كانت محدودة، أو نائية في زمانها أو مكانها، أو لمحدودية أثرها في التاريخ.
باعتبار اللاعنف أحد خيارات الصراع، وليس أهمها إلا بالنسبة إلى نخبة أقل من قليلة؛ فإن تمجيد النصر يستند إلى البيانات العسكرية، وليس إلى التطلعات الإنسانية! فالتصورات والأفكار التي أتعبت صياغتها الفلاسفة؛ لم تُمتحن على محك الواقع بما يكفي، لتتجنب البشرية المفاجآت المتلاحقة على مسرح الحياة! فالكائن البشري ليس مؤهلًا بفطرته لاحترام وصيانة حقوق الآخرين، ذلك السلوك مكتسب (والظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ .. ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ)، وهذه العلة قد تكون الخوف، وقد تكون الرحمة، وقد تكون المعرفة، وقد تكون.. وقد تكون.. وبما أنه لا يوجد واقع دائم، سوى واقع التغيير؛ فإن النزاع هو القاعدة. والنزاع يقتضي وجود طرفين، أو عدة أطراف؛ أحدهما سينال صفة المنتصر، والآخر سيحصل على صفة المهزوم. وليس بين الحالتين سوى ألم المسافة.
من هنا؛ جاءت مقولة ديفيد مكرينولدز: تغيير الواقع لا يمكن أن يتم من دون ألم، لكننا في المقابل؛ لن نتحول إلى ممجدين للألم حتى لو كان ذلك باسم العدالة.
هذه عناوين، رؤوس أقلام، محاور، مفاصل. في المتن شيء آخر أكثر إغراء، في المتن هناك المطامع، النفوذ، السيطرة. في المتن هناك الانتقام، والذي هو أكثر عمقًا في النفس من الرحمة.
ثمة مغالطات كثيرة في فهم اللاعنف، والمغالطة الأساسية في فهم تلك الفلسفة على أنها عجز وضعف، وليس استراتيجية فعالة للوصول إلى الحل. ومن المؤسف أنه قد توفر لترويج العنف وسائل إعلام، ومناهج مدرسية، ومرويات شفهية ومكتوبة؛ فتحول إلى ثقافة عامة! وبقي اللاعنف بين طيّات كتاب هنا.. وكتاب هناك.. ينتظر قارئًا حصيفًا، يأخذ بتلك الفلسفة إلى مراحات تأثيرها! لا بل أصبح ضربًا من المثالية التي تثير السخرية! علمًا أن فلسفة اللاعنف تأخذ في حسبانها كلّ الفئات الاجتماعية، فهي ليست بطريركية، ولا جندرية؛ ويمكن للكبار والصغار، الضعفاء والأقوياء، النساء والرجال، أن يعملوا جنبًا إلى جنب تحت رايتها. فهو المكان المفتوح لكل المؤمنين به، بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو عقائدهم أو سنهم؛ على العكس من العنف الذي يتصف ببطركيته؛ ويأخذ في حسبانه لياقتهم البدنية، كأحد العوامل المهمة لخوض الصراع؛ وبذلك فإن هذه النقطة لصالح اللاعنف، إلا أن مشكلته –حين تقتضي الضرورة– يجب أن يكون منظمًا، وأهدافه استراتيجية، فثورة غاندي بقدر ما كانت سلمية، كانت حركة منظمة، أهدافها واضحة لكل الشعب الهندي، ولم تقتصر على أنها لم تحمل السلاح، فهذا يتناقض مع جوهرها، بل استعملت سلاح الإضراب، ومقاطعة البضائع البريطانية، ودولاب الغزل، ومسيرة الملح التي انتهت بإطلاق سراح غاندي من السجن، ومفاوضات المائدة المستديرة الثانية مع الحاكم البريطاني اللورد إيروين، وهناك توثيقات مهمة لانتصارات لا عنفية عديدة في أوروبا ضد النازية، ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلمين ضد تدريس الأيديولوجيا النازية، وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون إرسال اليهود خارج البلاد، وغير ذلك.. أما اللاعنف الأهلي فخير مثال عليه ما يحدث في محافظة الرقة التي لم تستطع سلمية أهلها (سكان المدينة) حمايتهم، وها هي تموت بالتقسيط المريع، على مرأى ومسمع العالم من أقصاه إلى أقصاه! والفارق بين تلك الحركات اللاعنفية التي تستند إلى برنامج وتنظيم وأهداف استراتيجية، وبين ما يحدث في الرقة، أن الناس في محافظة الرقة آثروا السلامة، وحيّدوا أنفسهم؛ ولم ينشغلوا بوجود حركة (أحرار الشام)، ومن ثم (داعش)، وحاولوا أن يستمروا ولو بأدنى شكل من أشكال الحياة. وسلميتها هذه ليست ناتجة عن قوتها المنظمة، بل عن ضعفها، وتفككها، وعدم امتلاكها لأسباب القوة المادية. ولهذا أسبابه التاريخية، والاجتماعية؛ فوجدوا أنفسهم ضحية عنف لا مثيل له في التاريخ، فهي الهدف الذي يتقن الجميع إصابته! وهذ النقطة يجيب عنها ديفيد مكرينولدز، إذ يقول: مفهوم التغير الاجتماعي العميق برمته لا يقوم به إلا من هو بحاجة إليه، لم يحرر البريطانيون الهند، بل الهنود فعلوا ذلك. البيض في الجنوب لم يضعوا حدًا لجيم كراو، بل السود فعلوا. فحيثما يوجد ظلم لا ينزل الله، ويوجد العدل، نحن من نفعل ذلك. وإلا؛ فلن يُفعل.
مدينة الرقة لم يتشكل فيها فريق عسكري ضد النظام، ولم تنشأ فيها حركة سياسية مناوئة له أيضًا، وقبل ذلك لم تُجمع المدينة على رجل واحد. حتى دينيًا كانت فرقها متناحرة! ولا يوجد شيخ عشيرة تمتد كلمته إلى أكثر من 10 بالمئة من أفراد قبيلته؛ وهؤلاء عادة يكونون من أقاربه المقربين، أو تربطهم به مصالحهم، فهي لا تعرف (التفوا بسيدهم.. كالشهب بالبدر؛ أو كالجند بالعلم) إلا في الانتخابات، لأنها تثير الحمية القبلية. تلك هي قصة الرقة التي رسبت اجتماعيًا، والمؤسف أن العالم كله أمامها سقط إنسانيًا.
[sociallocker] [/sociallocker]إبراهيم الزيدي