تلك الأغاني!



كيف يحدث أن تنقلب الأمور والأحوال رأسًا على عقب، وتنقلب معها المشاعر والعواطف، فيمَّحي ما كان يسكن الوجدان، ويرحل ما كان يعيش في الذاكرة، وينأى عن اللسان ما كان توأمه؛ وكأنَّ شيئًا لم يكن!

أعني تلك الأغنيات التي لم تنفصل عنَّا فحسب، ولا هجرناها وباتت نسيًا منسيًا، بل حتى إذا ما حدث ووقعتْ في أسماعنا -ولو مرَّة- في سيارة أجرة، أو محل قديم أو شارع.. طوَّحنا بأيدينا كما لو كنَّا نهش الذباب، وارتسمت على شفاهنا ابتسامات السخرية والاستهجان، بل ربَّما الخجل! وكأنما ارتكبنا إثمًا مريعًا، في يوم طيشٍ بعيد مضى، ثمَّ أتت مصادفةٌ لتسرد فعلتنا، وتُذكَرنا بحجم الأحلام التي صدّقناها قبل عقود، ثم تكشفت عن أوهام وآمال خلّبية ليس إلا.

أغانٍ -إنْ كنّا ما نزال نتذكّر- مثل “الأرض بتتكلّم عربي”، و”شعبنا يوم الكفاح فعله يسبق قوله، لا تقلْ ضاع الرجاء إنَّ للباطل جولة”، و”يا 100 مليون عربي بطل، ما بيعرفوا معنى الوجل”، و”وطني حبيبي وطني الأكبر، يوم عن يوم أمجاده بتكبر”، و”لنا النصر والموت للغاصبين”… وغيرها وغيرها من أغانٍ، لحَّنها وأدَّاها كبار الفنانين العرب.

أغانٍ، كان لها ذات يوم صولة وجولة وحضور، وكانت -على طغيان الحماسة على نبرتها- تعبيرًا عن واقعٍ، كان فيه من الأحلام -أو الأوهام- ما يكفي؛ ثمَّ تبدد الواقع بما حمل، وتبددت أغانيه بما عبَّرت عنه.

هل أسمّيها الأغاني الوطنيّة أو القوميّة أو الحماسيّة، والتي حين كُتبت ولُحّنت وغُنّيت، كان الفنانون أصحابها مفعمين بالثقة واليقين بأنّ أغنياتهم هذي ستحضُّ الملايين على الدفاعِ عن أرضهم، وصونِها من كلّ غاصبٍ، وشحنِ شعوبها العربية بطاقة كبيرة، تسهم في اتّخاذهم موقعًا مرموقًا لهم تحت الشمس، وبين شعوب العالم أجمع.

والآن؛ هل نستطيع، بعد كلّ المياه التي جرت في حياتنا العربية، أن ننبش ذاكرةً علاها، وعلا موضوعاتِها الغنائيّة، الغبارُ والصدأ؟ هل بات يمكن لأحدنا أنْ يستذكر تلك الأغنيات، أو يُخطئ فيردّد إحداها في مجلس أو بين صحب وأصدقاء؟

بالطبع، من النافل التأكيد على أنني لا أسخر من تلك الأغنيات، ولا أستخفُّ بجهود أصحابها ونبل مراميهم، فقد كنتُ واحدًا ممن يردّدونها ويشتعلون حماسة حين سماعها؛ وإنّما أود الإشارة إلى المسافات الهائلة التي باتت بيننا وبين كلماتها وموضوعاتها، وإلى الخراب الهائل الجديد -على الخراب السابق- الذي تراكم وتكدَّس في حياتنا، منذ ظهور تلك الأغنيات إلى اليوم.

ثمَّة ما اضمحلَّ من دون شكّ، ثمَّة ما سقط وانهار، وثمَّة ما مات، في عالمنا العربي -على الخصوص- وفي العالم أيضًا، وإنْ يكن بأشكال، وطرائق، ولأسباب متغايرة. فعالم اليوم لم يعد عالم الأحلام والآمال والطموحات الكبرى. هو السوق الفاجر للمصالح، وأبواب الرزق، والتجارة؛ مُضافًا إلى الخسَّة والانحطاط والوضاعة في القيم والمفاهيم والمعايير. عالم اليوم عالم الاستبداد والطغاة، يُذلُّون مَنْ يشاؤون، ويُهجّرون مَنْ يشاؤون، ويعتقلون مَنْ يشاؤون، ويُبيدون ما يشاؤون، على مرأى مُتفرّجين -من مختلف البلدان والجنسيات في العالم- يتابعون بعيون وآذان ومعلومات حيَّة دقيقة، من دون أن يفكّر أحد أو جهة أو دول، بحسابٍ أو عقاب، بحيث لم يعد يليق بعالمنا -بمستبديه ومُتفرّجيه معًا- سوى أن يُنشد ما أنشده سميح شقير عن حق: “يا حيف”، يا حيف على عالَمٍ هذي صورته وجوهره.




المصدر
إبراهيم صموئيل