مقهى الروضة الدمشقي والرحيل
1 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
ها أنا في المقهى، المقهى الواسع جدًا جدًا، الممتلئ بالرواد، أطياف دمشق المتعددة: شاعر، صحفي، روائي، كاتب حر، شبه كاتب، موظف في دائرة لها علاقة بالثقافة، ممثل، طالب جامعي ومُدرّس، متقاعد، ضابط سابق ومخبر، كائنات متأففة، متصنعة، صادقة، كاذبة.. وأصحاب ربطات العنق نادرون، كما هم نادرون موظفو الدولة من المرتبة الأولى، ولا ضباط على رأس عملهم في الجيش والأمن يزورون المقهى، ويندر حضور الأغنياء.
المقهى الواسع جدًا، والمعروف بمقهى (الروضة) الواقع في شارع العابد والقريب من مبنى البرلمان الذي ما زال يحتفظ باسمه الأول، والذي بناه السوري عام 1928 – 1929 زمن الانتداب الفرنسي. وزخرفه الفنان السوري محمد علي الخياط، المقهى هذا مقهى المثقفين من كل الأنواع، الأنواع التي أجبرها الخوف على الظهور بما لا يعكس المستور الصادق.
المقهى الواسع الممتلئ بالساخطين ممتلئ أيضًا باللغو، اللغو الذي فرضه الخوف من قول القول المعني في السياسة.
في المقهى هذا يجلس: الكاتب الحاسد لشهرة صديقه الذي حصل على جائزة الرواية الأحسن، ويتحدث عن سلوكه المشين من دون أن يأتي على ذكر الرواية. البطل الخلبي يسرد مواقفه العظيمة التي لا نعرف، المسجون مراهقًا يسترد عقله كبيرًا ويعود إلى طائفته، الفتاة الجميلة التي تجلس معنا يتفرسها جلساء الطاولة فرحين، المخبر يسترق السمع دون ضجيج، ورجل الأمن يكتفي بنظارته السوداء وشرب القهوة على مهل، النادل الصديق يغمز بعينه اليسرى تحذيرًا من خطر الجالس خلفنا، شجار لاعبي النرد لا يكترث بالآخرين، المقهى الممتلئ بالعابثين سرعان ما يتحول إلى صمت، حين تنظر العيون إلى مباراة كرة قدم بين فريقين أوروبيين، الضابط الذي خاض تجربة الانقلابات العسكرية في الخمسينيات لا يملك ثمن فنجان القهوة، اللاجئ العراقي المتوحد ينظر طوال الوقت إلى السقف.
الجلساء حول الطاولة يتكاثرون، بينهم رابط من الود، لكن أحدًا لا يعرف بالدفائن. تنتظر النميمة دورها حتى يغادر جليس من الجلساء الذي تطفل على الجلسة، وتبدأ عملية التشريح والتشليح، إنْ هي إلا دقائق حتى يصبح جثة هامدة.
حين ينفضّ الجلساء الذين يتحلّقون حول الطاولة واحدًا تلو الآخر، ويدفع كل واحد ثمن ما استهلك؛ يذهب الحميمون إما إلى مطعم “إسكندرون” الذي يتسع لأربع طاولات فقط، أو إلى مطعم “شينو”، أو مطعم “نينار”، أو إلى برج الفردوس. هناك يتكوّن عالم جديد كل الجدة، لا أحد هنا يخفي شيئًا، مع أول كأس يخرج المكبوت الإرادي، بكل صدق. فجأة يُقال لنا إن الطاولات مسكونة بأجهزة تصنت، فاحذروا؛ فنحذر ولكن ننسى.
المقهى الذي شهد أول حوارات حول الهبة السورية ضد النظام، وتظاهرات التمرد الذي صارت ثورة شعبية، لم ينقص منه أحد تقريبًا، في الشهور الأولى من الثورة، ربما لم ينخرط أحد في الهبة والتظاهرة، ولكن روح الثورة راحت تسري في المقهى. كما ظهرت بوادر المواقف المختلفة، وشيئًا فشيئًا؛ انقشع ضباب التخفي السابق، وبدأت ملامح التباعد تظهر، كما ملامح التقارب. وما عاد أحد بقادر على أن يخفي انحيازه، أو يختفي وراء حب الوطن، والحرص على أمنه وسلامته من المؤامرات الخارجية.
فجأة، طل الخطر من عنف النظام، الطاولات التي كانت تجمع جلساء متنوعين انفرط عقدها، بل صارت ذات هويات؛ صار للطاولة هوية! والكلام صار جِدًا ولكنه خطر.
المقهى لبس حلة جديدة لم تألفها من قبل، ويومًا بعد يوم، ومع ازدياد عنف الجماعة الحاكمة وهمجيتها؛ بدأت الهويات الحقيقية بالظهور، ويومًا بعد يوم كان مخزون المقهى يفرغ، لم يعد المقهى مطابقًا لروح الزمن الجديد؛ وبدأ الرحيل.
في عام 2013، صار المقهى مكانًا مهجورًا، الصمت، الهدوء، التحسب الأكثر من المخبرين. المثقفون الذين مارسوا الظهور عابثين فوضويين صاروا جدّيين جدًا، يخافون على انهيار النظام، لم يمض وقت طويل حتى ذهب كلٌّ إلى خياراته.
لم يعد مقهى الروضة مكانًا آمنًا، وضجيج الحياة الذي كان يغمره توقف، الكراسي فارغة. ثلة منا انتقلت إلى برج الفردوس الفندق الوحيد الذي امتلأ بمهاجري حمص، لأن مديرته رولا الركبي استنت سعرًا زهيدًا جدًا، لاستقبال الهاربين من الموت. لكن المخابرات لم تغلق عينيها عن المكان.
بَعضُنَا ركب البحر، وبَعضُنَا الآخر ركب الفضاء، وهناك من لزم البيت. بعض الصداقات التي كانت تربط بين الجلساء انقطعت، لم تعد المواقف المتناقضة تتحمل صداقة.
مقهى الروضة في قلب دمشق، في شارع محمد علي العابد، قرب البرلمان الذي كان أول رئيس له بديع المؤيد العظم، بُني عام 1938، على مساحة 1000 متر مربع تقريبًا.
[sociallocker] [/sociallocker]أحمد برقاوي