on
بين الثقافة والسياسة: معوِّقات تحقيق الديمقراطية في سورية
انشغل كثير من الباحثين العرب والأجانب، بتفسير ظاهرة “العجز” أو “الاستعصاء” الدیمقراطي في العالم العربي، وقدموا نظریات عدیدة في هذا الشأن، بعضها یتعلق ببنیة الثقافة السیاسیة العربیة/ الإسلامیة وطبیعتها، وبعضها يتصل بظاهرة الاقتصاد الریعي والدولة الریعیة، وبعضها الآخر یتمحور حول دور الدول الغربیة، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركیة التي ظلت طوال عقود تدعم نظمًا تسلطیة في المنطقة، ترتبط بأهدافها وتخدم مصالحها. وهناك باحثون ركزوا على توجهات وسیاسات النخب السیاسیة التي تولّت مقاليد الحكم في الدول العربية، في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث تفننت في تكریس التسلطیة، بل تحدیث آلیاتها من خلال صیغ وإجراءات دیمقراطیة في شكلها، وتسلطیة في مضمونها.
ضمن مشروع الصالون الثقافي لمنظمة Campus Cosmoplis في برلين، والذي حمل على عاتقه القضية السورية والهم السوري منذ انطلاقته، بداية هذه السنة، من خلال عناوين مختلفة، وفي إطار تناول المسائل الإشكالية في هذا الخصوص، كان اللقاء المفتوح مع الدكتور حسام الدين درويش الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الشرقية، في جامعة كولونيا، والباحث المشارك في قسم الفلسفة، في جامعة ديسبورغ – إيسن. وقد حاوره طارق عزيزة، في اللقاء الذي جرى في 23 أيلول في مقر المنظمة، تحت عنوان (في معوِّقات تحقيق الديمقراطية في سورية: العلاقة بين الثقافة والسياسة).
في البداية، أشار الدكتور درويش أن ميل كثير من الناس إلى تفسير غياب الديمقراطية في سورية (وغيرها من البلاد العربية “الإسلامية”)، بالعامل الثقافي الذي يتم اختزاله، غالبًا أو خصوصًا، إلى العامل الديني (الإسلامي). وتساءل: ما هي العلاقة الممكنة و/أو الفعلية بين الثقافة (ثقافة النخبة وثقافة عموم الشعب) والسياسة أو نظام الحكم (غير) الديمقراطي؟ وإلى أي حدٍّ، وبأيّ معنىً، يمكن تبني هذه الرؤية الثقافوية للسياسة، تبنيًّا نقديًّا، أو انتقادها إلى درجةٍ قد تسمح برفضها رفضًا جزئيًّا أو كاملًا؟ البحث عن الإجابات الممكنة عن هذه الأسئلة كان محور اللقاء والحوار عمومًا.
في الحديث عن الأسباب أو العوائق التي تمنع قيام نظم ديمقراطية، وتفضي إلى وجود نظم ديكتاتورية أو غير ديمقراطية في “معظم” البلاد العربية والإسلامية، يتم الإشارة غالبًا إلى العامل الثقافي، بوصفه عائقًا في وجه الديمقراطية، أو سببًا لوجود أنظمة غير ديمقراطية. وعلى الرغم من صعوبة تناول المسألة، فضلًا عن حسم الإشكالات التي تتضمنها؛ نجد أن معظم الناس لديهم رؤية حول هذا الموضوع ويعبرون عن هذه الرؤية، تعبيرًا مباشرًا أو غير مباشرٍ. وإلى جانب هذا التناول “العفوي” أو الحدسي “غير المفكر فيه كثيرًا”، أشار الدكتور درويش إلى إمكانية تناول الموضوع بثلاث طرق مختلفةٍ: فكرية تأملية حدسية، أيديولوجية صراعية، بحثية معلوماتية. كما قام بالتمييز بين أربعة مضامين من المقاربات للعلاقة بين الثقافة والسياسة، وقد حصر هذه المضامين في مجموعتين أساسيتين: مجموعة اختزالية (تقوم برد السياسة إلى الثقافة أو رد الثقافة إلى السياسة)، ومجموعة جدلية (تتمظهر في جدلية مائعة لا تتضمن أي تمييز أو تفصيل أو تحديدٍ واضحٍ للعلاقة القائمة بين طرفي هذا الجدل؛ وجدلية مرنة تأخذ التغيرات السياقية بالحسبان في تحديدها لهذه العلاقة، على الرغم من إمكانية انزلاق هذا الجدل إلى اختزالية ما).
ركّز الدكتور درويش في محاضرته على المقاربة الأولى، وقام بتعريف المقاربة الثقافوية بأنها تلك المقاربة التي ترى أن مشكلتنا الأساسية تكمن في الثقافة لا في السياسة، وأن الأخيرة هي مجرد انعكاس عن الأولى ونتاج لها. وبحسب هذه المقاربة، تعدّ الثقافة هي التربة التي تنشأت منها شجرة الديكتاتورية في العالم “العربي” و”الإسلامي”. ووفقًا لمتبني هذه النظرة، يمثل الدين (الإسلامي) المكون الأساسي الوحيد، أو الأبرز، في هذه الثقافة. وفي هذا الدين تكمن مشكلتنا الأكبر أو الأهم بمعنى ما.
في عرضه النقدي لهذه النظرة، أشار الدكتور درويش إلى أهم السمات التي تتسم بها هذه المقاربة، مع تشديده على أن هذه السمات تمثل بعض سمات الرؤية الثقافية فقط، كما أنها لا توجد وجودًا ضروريًّا في كل مقاربةٍ يمكن وصفها بالثقافوية.
السمة الأولى هي مرونة هذه الرؤية وتنوع وظائفها وإمكانات استخدامها، من قبل أيديولوجيات مختلفة، بل متناحرة، حيث يمكن أن يستخدمها محبو الشعب ومحتقروه، أصدقاء النظام وأعداؤه (وتأخذ أحيانًا شكل التعيير لا النقد)، كما يمكن استخدامها، في آنٍ واحدٍ، من قبل مثقفي السلطان (لتبرير وجود الأنظمة الديكتاتورية)، ومن قبل معارضيه الذين يرون أن الخلاص من السلطان يقتضي الخلاص من الثقافة المنتجة له أولًا.
السمة الثانية هي لا تاريخانية هذه الرؤية وماضويتها، على الرغم من لجوئها كثيرًا إلى التاريخ. فعلى الرغم من تضمين هذه الرؤية إحالة مستمرة إلى التاريخ، فإنها تحيله إلى بنية ثابتة ساكنة لا تتغير ولا تتبدل. فهذه الثقافة “المنحطة” ثقافة الخنوع والخضوع للحاكم وعدم احترام الاختلاف، كامنة وبارزة دائمًا في مجتمعنا، على الرغم من تمظهراتها المختلفة. وقد ميز الدكتور درويش بين اللاتاريخية العلمانية (التي تحيل إلى ماضٍ ينبغي، من وجهة نظرها، التخلص منه لتأثيره السلبي الفاعل حتى الآن)، واللاتاريخية الدينية التي تحيل إلى لحظة إيجابية ما في الماضي، وترى ضرورة استعادتها متجاهلة التغيرات التاريخية أو مقللة من أهميتها.
السمة الثالثة لهذه النظرة تكمن في كونها جوهرانية ولا هيرمينوطيقية؛ فالحديث عن الدين يتم بمعزل عن التدين أو التجليات التاريخية للدين، وهي التجليات التي يتم محاكمتها انطلاقًا من هذه الرؤية الجوهرانية للدين. ويبدو افتقادها للرؤية الهيرمينوطيقية، في عدم اعتقادها أو قبولها بإمكانية تعدد المعاني والتأويلات ومن يأتي تبنيها لذهنية التكفير العلمانية المماثلة لذهنية التكفير الدينية.
السمة الرابعة تتمثل في اللا جدلية؛ فهذه الرؤية لا تأخذ بالحسبان ديناميكية العلاقة بين السبب والنتيجة، والتي تنتج جدلًا يجعل من السبب نتيجة والنتيجة سببًا. فحتى لو كانت الثقافة سببًا أو السبب الرئيس في إنتاج نظامٍ ديكتاتوريٍّ ما؛ فإن التأثير اللاحق لهذا النظام في الثقافة يكون هو المهيمن؛ بحيث تتحول النتيجة إلى سببٍ ويصبح السبب نتيجةً. ومن هنا تأتي ضرورة التمييز بين المنشأ التاريخي للمشكلة والطريق إلى حلها، فحتى لو كانت الثقافة اللاديمقراطية سببًا أو هي السبب؛ فالحل لا يكمن، في الدرجة الأولى، عن طريق إصلاحها؛ فهو يستلزم معالجة مسبقة أو موازية للسبب السياسي بالضرورة.
السمة الخامسة تتمثل في لا أخلاقية هذه الرؤية، على الرغم من انطلاقها الظاهري من أسس أخلاقية؛ ويكمن البعد الأخلاقي فيها، في المساواة بين الجلاد والضحية، من حيث المسؤولية. فكل الأطراف هي نتاج هذه الثقافة وضحاياها بمعنى ما، ويستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
السمة السادسة هي إقصائية هذه الرؤية ولا سياسيتها ولا ديمقراطيتها؛ فعلى الرغم من انغماس هذه النظرة في السياسة، فهي تعادي هذه الثقافة -ممثلة بالدين- ولا ترى إمكانية للتصالح معه، في الميدان السياسي على الأقل، ومن هنا تتبنى أكثر أشكال العلمانية تطرفًا، والمعروفة بأنها فصل الدين عن السياسة، وليس مجرد فصله عن الدولة، أو السيادة، وترى ضرورة إقصائه من الحياة السياسية، ولا ترى ضيرًا في إمكانية إقصائه من الحياة كليًّا.
السمة الأخيرة التي شدد عليها الدكتور درويش، تكمن في كون هذه الرؤية عرضًا من أعراض المشكلة وتعميقًا لها، وهي تفتقد لإمكانية تشخيصها، ناهيك عن عدم قدرتها على أن تكون خطوة في طريق حلها.
بعد انتهاء المحاضر من إلقاء كلمته، أغنى الحضور اللقاء بأسئلتهم ونقاشاتهم وتعقيباتهم، وتم التشديد على معاناة الشعوب العربية من الافتقار إلى التقاليد الديمقراطية، ومن عدم وجود مؤسسات المجتمع المدني، وتفشي الفساد الإداري، والوساطات والمحسوبية في دوائر الدولة، إضافة إلى الإسلام السياسي والانفجار السكاني، والأزمة الاقتصادية والبطالة، والانقسامات الدينية، والمذهبية، والقبلية، والاختلافات السياسية والأيديولوجية. وهذه العوامل وغيرها كثير، تشكل عراقيل في طريق الانتقال من حكم الاستبداد إلى النظام الديمقراطي. والصعوبات تزداد مع درجة قسوة حكم الاستبداد المنهار ومدته. فالانتقال إلى الديمقراطية ليس سهلًا ولا سلسًا، ولكن في نهاية المطاف هناك ضرورة لانتصار الديمقراطية، من منظور الإرادة الثورية العربية، ومن منظور القراءة التاريخية لمعظم التجارب التاريخية للشعوب والمناطق الأخرى. فالشعوب العربية والإسلامية ليست استثناءً، بالمعنى الجوهري، كما يروٍّج بعض المفكرين.
قد لا يفضي ما يجري في العالم العربي الآن إلى تحقيق الديمقراطية تحقيقًا مباشرًا أو غير مباشرٍ، لكن يمكن النظر إليه على أنه بداية عملية شاقة وطويلة للانتقال إلى الديمقراطية. فرحلة الألف ميل قد بدأت بثورات الشباب المطالبين بالتغيير، وإقامة أنظمة ديمقراطية، ولا بد لها أن تنتصر.
المصدر
حسن عبد الله الخلف