لا تقولي إنك خائفة



يتحدث العالم اليوم بلغة مشتركة هي لغة الحرب.. لغة القتل والتدمير والخراب.. لغة تشويه المعالم الإنسانية المشتركة، بين الإنسان الشرقي والإنسان الغربي، الإنسان المسلم والإنسان المسيحي والإنسان اليهودي، وباتت قضية اللجوء تأخذ حيزًا إنسانيًا كبيرًا في الأدب والفن العربي والعالمي؛ وذلك بقدر ما يعانيه اللاجئ من تقهقر ومعاملة غير إنسانية للوصول إلى النجاة من الموت، أو العبور في مرحلة موت مختلفة عن الموت بالرصاص. على الإنسان أن يختار الميتة التي يريدها، إما بالرصاص أو بالبحر، أو على يد مافيا التهريب! هكذا تريد الحرب ولصوصها التي توجتهم ملوكًا في ممالكها.

الحرب التي قتلت أحلام الشباب وطموحاتهم وأهدافهم البعيدة، ليست حربًا كأي حرب، وليست في سورية فحسب، إنما هي حرب أهلية في إفريقيا وفي الصومال تحديدًا. في الحرب فقط تسود المساواة وتسقط الفوارق بين الناس، هذا ما سيحدثنا به الكاتب الإيطالي خوزبه كاتوتسيلا في روايته (لا تقولي إنك خائفة).

سامية بطلة الرواية -وهي الراوية في الوقت ذاته- طفلة حالمة من قبيلة (أبجال) التي تتسم بملامح تشبه الملامح العربية، على حد قول الكاتب، عدّاءة ماهرة في زمن الحرب، زمن المعاناة، زمن تلاشي الذات الإنسانية في أيديولوجيا الدين والتعصب والانحطاط الأخلاقي.

عائلة سامية مكونة من خمسة أشخاص، تعيش في فقر مدقع، تتشارك المنزل مع عائلة من قبيلة (دارود)؛ وهي من الزنوج تتكون من ثلاثة أشخاص: الأب وولديه. القبيلتان على خلاف دائم، إن لم نقل تناحر، لكن يوسف والد (سامية)، وياسين والد صديقها (علي)، هما صديقان حميمان خارجان على قانون القبائل، منفتحان على الحياة وثقافتها غير التقليدية، يصورهما الكاتب كشخصين مستفيدين من ثقافة الاحتلال الإيطالي، إذ يكرر بعض الأمثال الشعبية الايطالية على لسانيهما بلغة بسيطة: “ساعد نفسك كي يساعدك الله” و”إنما العالم قرية صغيرة”.

يكبر حلم سامية، كلما ازداد عمرها عامًا، وتزداد إصرارًا على مواصلة التدريب من دون مدرب محترف، بمساعدة صديقها (علي)، وتشجيع والدها الدائم: “لا تقولي إنك خائفة، يا سامية”، وقد قُتل في ظروف غامضة على يد الجماعات الإسلامية المتشددة، وكان (محمد فرح) العداء الصومالي العالمي، هو هدف سامية ومثلها الأعلى في إصرارها على مواصلة المشوار، على الرغم من لومها الدائم الذي توجهه إليه، بينها وبين نفسها، لتركه الصومال وتجنيسه بجنسية أجنبية، وعلى الرغم من قساوة الظروف، وسوء التغذية التي لم تساعد سامية في الحصول على المرتبة الأولى في سباق أُقيم شمال الصومال، كما كان السبب في خسارتها في أولمبياد بكين، إضافة إلى عدم وجود مدرب. بالتعاون مع صحفية أمريكية، استطاعت سامية أن تسافر إلى أثيوبيا للتدريب، لكنها كانت تسمّى “تهريب”، لعدم توفر الأوراق التي تثبت شخصيتها، ولدخولها البلاد بشكل غير قانوني، أما هودان أخت سامية فهي مولعة بالغناء، وقد منعتها الجماعات الإسلامية المسلحة من ممارسة هوايتها، ضمن فرقة موسيقية شكلها الشباب الصومالي المنفتح، كما اعتقلت بعض الشباب من أعضاء الفرقة، بحجة أن الغناء فجور؛ الأمر الذي جعل هودان تسافر عبر البحر إلى فنلندا، بعد أن تشاركت الحلم مع سامية بصومال جديد، وامرأة صومالية جديدة، حرة ومنفتحة على العالم، مختلفة عن المرأة الحالية المحكومة بالأحكام العرفية، والمنزلقة في عبودية الميليشيات المتطرفة، كـ (حركة الشباب) التي انضمّ إليها علي قسرًا.

سامية التي كانت تركض باتجاه الحرية في ملعب دمرته الحرب وأصبح ثكنة عسكرية، (كما هي الحال في الحدائق السورية والمدارس وصالات الرياضة)، كانت تتحدى ذكورة الصومال الموبوءة بالتعصب والفشل، وكانت تعدو حافية لأنها لم تكن تمتلك حذاءً رياضيًا، في حين أن الشباب المتطرف يرتدي الأحذية الإيطالية الفاخرة، ويتعطر بأفخم ماركات العطور. إنها مدركة تمامًا بأنها أنثى، وبأنها ستفوز بأنوثتها عبر هذا الخراب: “أفوز من أجل نفسي، كي أثبت لنفسي وللجميع أن الحرب بإمكانها أن توقف بعض الأشياء، وليس كلها”.

الرواية لم تكن من بنات خيال الكاتب، إذ إن قصة غرق (سامية) في البحر المتوسط قصة حقيقية، تناولتها معظم المحطات الفضائية، هذا النبأ ألهم الكاتب بكتابة رواية بيوغرافية، يسردها على لسان البطلة الميتة، أو المقتولة (لا فرق)، لكنه زين موتها في نهاية الرواية برشة من السكر؛ إذ جعل سامية تحقق حلمها في رؤية (محمد فرح) الذي بقيت صورته ترافقها عشرة أعوام، حتى أتلف الزمن ملامحها. كانت قد اقتطعتها من جريدة رسمية، وجعلها تستعد للمشاركة في أولمبياد لندن لعام 2012.

لفت الكاتب انتباه القارئة والقارئ إلى نقطتين ذواتا أهمية، وقد تصب في صالح الزمن الكولونيالي. النقطة الأولى: تعايش أسرتين من قبيلتين متناحرتين في منزل واحد، يدل على عدم التعصب والتشدد والانحياز إلى القبيلة أو العشيرة؛ إذ إن رجلي الأسرتين اللذين عايشا الاستعمار الإيطالي، مثقفان ومنفتحان على الحياة، لكن أبناءهما التحقا بالجماعات المتشددة، ثم يُقتل والد سامية على يد (عليّ)، صديق سامية الحميم والمترعرع بين يديّ أبيها. والنقطة الثانية: التركيز على ما بناه الإيطاليين في الصومال، وتدميره على يد الجماعات المتشددة، وكأنه يريد القول: لو لم ترحل إيطاليا من الصومال؛ لما وصلت بها الحال إلى هذا الحد من التعصب الذي أدى إلى نشوب الحرب الأهلية فيها، على الرغم من وضوح التعاطف الروحي مع سامية وعائلتها، الذي كان جليًا في سلاسة السرد وبساطته.

لم يتعرض الكاتب للحياة السياسية في الصومال التي على غرارها نتجت الحرب، فالحرب لا تنتج ذاتها من دون أسباب سياسية وقهر الحكومات لشعوبها، فلا نبتعد كثيرًا، إننا نعيش الحال ذاته، والقهر ذاته، والتعصب الديني ذاته، وكما فرِغت الصومال من شبابها الحالم، فرِغت سورية أيضًا من شبابها وكفاءاتها التي حلمت يومًا بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات.

قبل نهاية الرواية بصفحات قليلة، يطلّ علينا الكاتب بولادة جديدة؛ ليثبت لنا أن الحياة تولد من الموت، إنها منار ابنة هودان، العدّاءة الصغيرة التي سترث حلم خالتها سامية، وتساعدها والدتها على تحقيقه.

الحرب هي الحرب في كل زمان ومكان، لا تفرّق بين طفل أو شاب أو فتاة، ولا تفرّق بين مستشفى أو مدرسة أو ملعب، هي هوجاء وعمياء، والمأساة الإنسانية مستمرة.

الرواية، من منشورات دار المتوسط، بيروت. ترجمة معاوية عبد المجيد.




المصدر
أنجيل الشاعر