لماذا يفضل بعض اليساريين التحالف مع الإسلام السياسي



أُلحّ دائما على ضرورة الفصل بين النّقد السياسي والحقد السياسي، وأدعو إلى تحرير ملَكـة النقد من انفعالات الحقد، وأعرف أن الأمر متعلق بالأساس بجهد يومي يشبه التمارين الرياضية، وأعرف أيضا أن الخلط بينهما واقع في النفوس والرؤوس إلى درجة أن النقد السياسي قد لا يمارس إلا من باب الضغينة والكـراهية والبغضاء، وهي انفعالات سلبية تشل العقل، تعطل النقاش العمومي، وقد تشعل نيران الفتن في الأخير.
الفارق اللّفظي بين النقد والحقد حرف واحد- هذا مؤكد- لكن الفارق الدّلالي في المعنى هو 180 درجة بالتمام. إنه حساب الفرق نفسه بين الحضارة والهمجيّة. في كل الأحوال، يبقى النقد السياسي ضرورة حيوية للمنقود ذاته قبل سواه، سواء أكان المنقود شخصاً أم فكرة أم مؤسسة، لا فرق؛ فالأصل في الأشياء أنّ كل قوّة تحتاج إلى قوّة مضادّة. لا توجد قوّة قادرة على بناء نفسها بمعزل عن وجود قوة مضادة لها. يصدق هذا الأمر على قوانين الفيزياء، كما يصدق على قوانين السياسة.
تحتاج الحكومة القوية إلى معارضة قوية، تحتاج الدولة القوية إلى مجتمع مدني قوي، تحتاج السلطة القوية إلى سلطة مضادة قوية. هذا ما يسمى بالجدل السياسي، بمعنى العلاقات النقدية بين مختلف الفاعلين السياسيين. لذلك ليس من الذكاء في شيء أن تسعى السلطة إلى تدمير القوة النقدية.
هذا ما يقوله الحس النقدي والوعي الجدلي. غير أن الحقد السياسي في المقابل سواء لدى بعض قوى السلطة، أو لدى بعض قوى المعارضة قد ينتهي إلى الوقوع في المحظور. وضمن المحظورات قد ينبثق مطلب “عليّ وعلى أعدائي”، على طريقة “هدم المعبد على رؤوس الجميع”، فيكون المطلب صريحا ومعلنا أحيانا من قبيل شعار “الأسد أو لا أحد”، أو يكون مضمرا ومبطنا أحياناً أخرى، مثلما يحدث في شعارات التصعيد الثوري.
مقصود القول في ما نبتغي قوله إن بعض اليساريين قد بلغ بهم السخط على الإمبريالية والرأسمالية والبورجوازية والكومبرادورية- ولستُ أدري- مبلغاً أصبحوا فيه جاهزين للتحالف مع الإسلام السياسي الذي أثبتت التجارب كلها أن لا دور له في السياسة غير تحويل الثورات إلى فتن دينية.
ثمة من لا يزال مُصرّا، بعناد مذهل، على اعتبار أن التطرف الديني حتى وإن كان شرا قادما، فهو حليف تكتيكي في المعركة ضد الاستبداد السياسي الذي هو شر قائم، حتى ولو أن التجارب أثبتت بما يكفي أن معركة الإسلام السياسي لم تكن في يوم من الأيام معركة مناهضة الاستبداد بقدر ما كانت معركة إضفاء الطابع الديني على الاستبداد نفسه.
ثمة من يعتبر الإسلام السياسي حليفا “قوميا” حتى بعد أن أكدت التجارب أن أولوية الإسلام السياسي ليست مواصلة مهام حركات التحرّر الوطني، وإنما الإجهاز عليها بدعوى تصفية العلمانية، ثم التغني بعظمة الإسلام وكفى، والمقصود تحديدا هو التغني بعظمة الإسلام السياسي.
ثمّة من اليساريين من يعتبر الإسلام السياسي مجرّد ضحية لنظام عالمي ظالم، حتى ولو أن التجارب قد أظهرت بأن الإسلام السياسي هو المستفيد الأكبر من هذا “الظلم العالمي” الذي يهمّه أن يخدم مصالح “سادة العالم” باستغلال حركات دينية يهمّها أن تحارب سعادة الإنسان.
فهل قدمت أي واحدة من تلك الحركات الدينية، إلى حد الساعة، نموذجا ولو أوليا لاقتصاد يخالف الرأسمالية العالمية في جزئية مـن الجزئيات؟ هل قدمت في الحد الأدنى نموذجا بديلا في التسيير الإداري والحزبي والنقابي والحقوقي ونحو ذلك من التفاصيل؟ هل نسينا أن فصائل الإسلام السياسي لم تكن سوى أدوات بين أيادي الإدارة الأميركية منذ جيمي كارتر ورونالد ريغان إبان الحرب على الشيوعية، ثم الحرب على حركات التحرّر الـوطني، وأنها اليوم أدوات في أيادي المؤسسات المالية العالمية؟
لمزيد من التوضيح نقول، هناك أيضا يسار ظلامي يتسامح مع التطرف الديني على أساس ثلاث اعتبارات:
أولا، العنف الديني ليس عنفا أصليا لكنه مجرد رد فعل ضد عنف النظام الرأسمالي.
ثانيا، الوعي الزائف الذي يعبّر عنه الخطاب الأصولي المتطرف ليس مشكلة جوهرية، لأن المشكلة الجوهرية تكمن في الواقع الاجتماعي، وهو المسؤول عن إنتاج الوعي الزائف.
ثالثا، كل المشاكل ستزول بزوال الرأسمالية العالمية، لكي يعمّ النعيم الأرضي في الأخير.
في كل الأحوال، يبقى الموقف اليساري من العنف الديني امتدادا لموقف الماركسيين الكلاسيكيين من الدين. حيث يُعتبر الدين ثمرة اختلالات اجتماعية يجب علينا أن نعالجها حتى تنتهي المشكلة. لكن المشكلة أن هذه الفرضية تقودنا إلى تبرير العنف الديني باعتباره مجرد رد فعل عرضي على عنف أصلي، ألا وهو عنف الرأسمالية والإمبريالية. ومن ثمّة يمكن أن يكون العنف العرضي حليفا ممكنا في مواجهة العنف الأصلي. مرّة أخـرى تكون المعـادلة على النحو التالي: لا بأس بالتحالف مع عنف قادم ضدّ عنف قائم، ويا لبؤس التحليل السياسوي.
وللذكرى التي قد تنفع البعض، في العام 1981 تحالف اليساريون الإيرانيون مع الخمينيين من أجل تجذير الثورة الإيرانية والعمل على إسقاط حكومة الحسن بني صدر، فانتهت اللعبة إلى تغوّل التيار الخميني، وإلى تـدمير اليسـار على بكرة أبيه.
وليس يخفى أن حركة عشرين فبراير المغربية نفسها انهارت انهيارا مدويّا منذ عامها الأول 2011 ليس بسبب إجراءات السلطـة، وإنما جراء الثقة المطلقة للشباب في جماعة العدل والإحسان التي عوّلوا عليها فخذلتهم عقب صعود حزب العدالة والتنمية الذي يظل الأقرب إلى قلبها رغم العتاب.
طبعا بوسعنا الحديث عن اليساريين اللبنانيين الذين تحالفوا مع حزب الله في سنوات الثمانين من القرن الماضي قبل أن يستغني عن خدماتهم. وبوسعنا استذكار العشرات من التجارب الأخرى، مما لا يخفى عن أحد. لكن المذهل بكل المقاييس أن بعض اليساريين يريد تكرار نفس التجربة للمرّة الألف.
لا أذكر إن كان أينشتاين هو الذي قالها لكنها قيلت “الغباء هو أن نفعل نفس الشّيء مرّة أخرى ونتوقع نتائج مختلفة”. فماذا نقول عمن يحاول أن يفعلها للمرّة الألف، ويتوقع نتيجة مختلفة؟
(*) كاتب مغربي




المصدر
العرب