نيو يورك تايمز: كيف يُعامَل اللاجئون بكرامة.. درسٌ من تركيا



دانييل ستوليه

منذ عام 2011، قتلت الحرب الأهلية في سورية أكثر من 470،000 شخص، معظمهم من المدنيين، وتشرّد الملايين من الناس، وفرَّ ما يقرب من خمسة ملايين سوريّ؛ ما خلق أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.

لم ينحصر العبء الأكبر في استقبال اللاجئين السوريين في الولايات المتحدة أو في أوروبا، بل على الدول المجاورة لسورية: تركيا، ولبنان، والأردن. حيث تستضيف هذه البلدان مجتمعةً أكثر من خمسة ملايين سوريّ. وتواجه تلك الدول تحدياتٍ ضخمة، بدرجاتٍ متفاوتة من النجاح. وفي زياراتي لهذه البلدان الثلاثة؛ صُعقت لمدى الكرامة التي يتلقاها اللاجئون السوريون في تركيا، وهي أكثر مما هي عليه في الأردن، وبالتأكيد أكثر من لبنان.

يُذكر أنّ لبنان الذي يبلغ عدد سكانه ستة ملايين نسمة، قدّم اللجوء إلى الفلسطينيين، منذ زمنٍ طويل. ووفقًا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فإنَّ نحو 450،000 لاجئٍ فلسطيني مسجلون في لبنان، ومعظمهم في المخيمات. حتى الجيل الثالث من الفلسطينيين المولودين في لبنان يحتفظون بصفة اللاجئ، ويعيشون في مخيمات اللاجئين من دون سبيلٍ للحصول على المواطنة، بعد ما يقرب من 70 عامًا من وصول أسلافهم، بل إنَّ القانون اللبناني يستبعد اللاجئين من معظم الوظائف.

حلَّ في لبنان الآن ما يقدَّر بـ 1.5 مليون سوريّ، يسكن العديد منهم في خيامٍ بلاستيكية في مخيماتٍ مزدحمة مع إمكانيةٍ شحيحة للحصول على المياه النظيفة، ويعيشون على المساعدات المقدّمة من المنظمات غير الحكومية. ولأنَّ الحكومة اللبنانية لا تريد أنْ يصبح السوريون مقيمين دائمين كما الفلسطينيين؛ فإنَّ المخيمات غيرُ معترفٍ بها رسميًا، أو أنها تُدار من قبل الأمم المتحدة، وقد وصل الاستياء تجاه اللاجئين السوريين إلى مستوياتٍ مقلقة. مع الانتخابات في العام المقبل، يعِدُ بعض السياسيين اللبنانيين بترحيل اللاجئين، بمجرد توقفِ الحرب في سورية. في الوقت الحاضر، يتلقى السوريون الصَّدقة، وليس الكرامة.

خلال الأشهر العشرة الماضية، قمتُ بزيارة العديد من هذه المخيمات. في مخيمٍ في وادي البقاع، قابلت الفتاة (نور) وعمرها 12 عامًا، وشقيقتها (آية)، عند مخبزٍ. عندما توقفتُ لشراء الحلويات للاحتفال بنهاية شهر رمضان، سألتُ نور عن عائلتها، فردّتْ: فقدنا الجميع. وهي تعيش الآن مع قريبتها الوحيدة المتبقية، وهي عمتها المسنة والفقيرة، وأطفالها الخمسة.

لم تذهبْ (نور) إلى المدرسة منذ اندلاع الحرب. في لبنان، تقضي أيامها في الشارع مع شقيقتها، في التسول. نور، وآية من بين آلاف الأطفال السوريين الذين يجوبون الشوارع يبيعون المناديل، والحلويات، وعبوات المياه. بينما يعمل آخرون في المزارع ليعيلوا أنفسهم، وما تبقى من أسرهم.

في مخيم تل سرحون للاجئين، في وادي البقاع أيضًا، وبموجب مرسومٍ حكومي، يذهب الأطفال السوريون والفلسطينيون إلى مدارس الأمم المتحدة بعد الظهر فقط. وهذه السياسة محاولةٌ متعمدة لفصل اللاجئين عن الأطفال اللبنانيين. رأيتُ العديد من الأولاد الذين كانوا يلعبون لعبة (البنادق) في الشارع، بدلًا من الذهاب إلى المدرسة. أيُّ مستقبلٍ ينتظرهم!

أبدى الأردن موقفًا أكثر ترحيبًا تجاه 1.3 مليون لاجئ سوريّ. ويقع مخيم الزعتري -وهو أكبر مخيمٍ في الأردن- قرب الحدود الشمالية، حيث تديره وزارة الداخلية الأردنية، ومكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، وتموّله مجموعة من وكالات المعونة الدولية.

ومع ذلك، هناك ما يصل إلى 60،000 شخصٍ محاصرين على الحدود السورية الأردنية. بعد مقتل مسؤولين أمنيين أردنيين بواسطة سيارةٍ مفخخة تابعةٍ لـ (داعش) عام 2016، أغلقت الحكومة الوصول إلى مخيمٍ آخر، مخيم الركبان، ومنعت عبور الحدود للسوريين. وقد ترك ذلك السوريين يخيّمون في الصحراء في منطقةٍ لا يصلها بشر، وهي منطقةٌ تُسمى “الحاجز الرملي”. فهناك الآلاف معرضون للضربات الجوية، ويعيشون في ظروفٍ بائسة، ويعتاشون على حصص الإغاثة القليلة جدًا. وبالرغم من انتشار الأمراض، منعت السلطات الأردنية وصول المساعدات، والعلاج الطبي، معتبرةً المكان منطقةً عسكرية مغلقة.

في خضمّ هذه الأزمة الإنسانية الخانقة، هددّت إدارة ترامب بخفض التمويل لوكالات المعونة الدولية التي تساعد اللاجئين السوريين. ومع انحسار الولايات المتحدة عن دورها القيادي العالمي؛ تتقدم القوى الإقليمية مثل تركيا بصعوبةٍ لملء الفراغ، حيث رحبّتْ تركيا وسكانُها البالغ عددهم ثمانين مليون شخص، بأكثر من ثلاثة ملايين لاجئٍ سوري. وقال رئيس الإغاثة الطارئة التركية: “اللاجئون السوريون ليسوا مشكلة حتى نحلّها”. وأضاف موضحًا: “إنّهم واقعٌ يجب ترتيبه والتعامل معه”.

تُعدّ مدينة غازي عنتاب التركية مثالًا يُحتذى به في معاملة اللاجئين معاملةً إنسانية. ويُقال إنَّ غازي عنتاب، وهي مدينةٌ جميلة على الحدود السورية التركية، تضم 600 ألف سوري، يعيش نحو 40،000 منهم في المخيمات الخمسة في المدينة التي تديرها رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ في تركيا. أما البقية -وهم الغالبية العظمى- فيعيشون في المدينة نفسها. ويُسمح للاجئين بالعمل، والحصول على الرعاية الصحية المجانية، والمدارس، وقد التزمت الحكومة مرارًا وتكرارًا بإيجاد طريقٍ للجنسية التركية.

جعلت رئيسة بلدية غازي عنتاب منذ عام 2014 فاطمة شاهين حمايةَ حقوق اللاجئين سياسةً مميزة. أصبحت مدينتها نموذجًا عالميًا حول كيفية احتضان الناجين من الحرب. رافقتُ السيدة شاهين، لرؤية بعض المنازل المؤقتة في مخيمات المدينة، حيث استقبلنا اللاجئون السوريون، كما لو كنا أقاربَ لم نرَ بعضنا منذ مدةٍ طويلة. كان مشجعًا أن نرى الأمل في وجوه شعبٍ خُذِلَ بشدةٍ.

لا تتوقف سياسة اللاجئين في تركيا على حدودها. زرتُ جرابلس في سورية، وهي بلدةٌ حُرّرتْ من سيطرة (داعش) في العام الماضي من قبل الجيش التركي. وفي حين أنَّ دوافع أنقرة كثيرة؛ فإن إحدى النتائج الملموسة هي انخفاض تدفق اللاجئين عبر الحدود، وإمكانية عودة العديد من اللاجئين إلى ديارهم. فبدلًا من دار القضاء السريع لـ (داعش) وقطع الرؤوس، يوجد الآن مستشفًى يحوي جناحًا للولادة، ويجري حاليًا إعادة بناء المدارس، كما شكلّت المدينة مجلسًا محليًا جديدًا.

على الرغم من الصعوبات التي واجهت تركيا، بعد محاولة الانقلاب العسكري منذ أكثر من عامٍ مضى، فقد تمكّنت من انتهاج سياسة تجاه اللاجئين أكثر إنسانيةً من سياسة جيرانها. لقد كانت أوروبا سعيدةً للسماح لتركيا بدورٍ قيادي في إغاثة اللاجئين. إذ أبرمتْ حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان اتفاقًا مع الاتحاد الأوروبي، تموّل فيه أوروبا برنامج اللاجئين في تركيا مقابل منع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.

وقد عزّزت استجابة تركيا لأزمة اللاجئين إلى حدٍّ كبير مكانة رئيسها، وقوته الإقليمية. يحلم السيد أردوغان -منذ فترةٍ طويلة- ببناء إمبراطوريةٍ عثمانية جديدة، وعاصمتها أنقرة. وقد ساهمت سياسة تركيا القوية تجاه اللاجئين بشكلٍ جوهري، في دعم هذا الطموح.

في الوقت نفسه، الحرب في سورية آخذةٌ في التراجع، حيث بدأ السوريون العودة إلى ديارهم. وأفادت المنظمة الدولية للهجرة مؤخرًا أن 600،000 سوريّ عادوا إلى ديارهم هذا العام. ولكنَّ هذه العملية ليست مستمرة أو مستقرة؛ حيث إن العنف الذي يمارسه بشار الأسد يمكن أنْ ينتج عنه موجة أخرى من اللاجئين؛ لأنَّه يخطط لاستعادة مدينة إدلب من بين المناطق الأخرى المتنازع عليها. وفي نيسان/ أبريل الماضي، استخدم مرة أخرى غاز السارين على المدنيين هناك. ويمكن أن يكونَ هجومه المقبل قاتلًا إلى حدٍّ كبير.

وحتى لو تمَّ التوصل إلى شكلٍ من أشكال الاتفاق المؤقت، لم يقترح أحدٌ بعد خطةً مُرضية لسلامة اللاجئين السوريين، بمن فيهم أولئك الذين يعودون والذين لا يستطيعون ذلك. وبمساعدة حلفائه الأجانب، إيران وروسيا؛ سيكون الأسد الفائز، بحكم الأمر الواقع في هذا الصراع البشع، ويخطط للبقاء في السلطة. بالنسبة إلى العديد من اللاجئين، حتى بعد انتهاء الحرب، فالعودة إلى سورية يسيطر عليها الأسد تعني الإعدام. ونظرًا إلى فظائع النظام، يبدو من المؤكّد أنَّ جيران سورية سيستضيفون أعدادًا كبيرة من اللاجئين لسنوات، وربما لأجيالٍ قادمة.

أخبرني معظم السوريين الذين تحدثتُ إليهم في أثناء أسفاري في مخيمات اللاجئين، بثقافةٍ مشتركة، عن انتهاكات من جانب الجيش والشرطة في البلد المضيف. ولا سيما في لبنان، قد تجبر أجيالًا من السوريين -النساء المكسورات، والرجال والأطفال- على العيش في كنفِ دولةٍ لا توفر القليل من السبل، أو الصبر، للتعامل مع وجودهم طويل الأجل. فالناس الذين أُجبِروا على الفرار من ديارهم، ثم عوملوا معاملة سيئة؛ سيكونون مُهيئين للتطرف؛ ما لم يُوجه العالم اهتمامه إلى مساعدتهم في إعادة بناء حياتهم، وتأمين بيوتٍ حقيقية، وبعض الشرف، وقليلٍ من الأمل على الأقل.

اسم المقالة الأصلي How to Treat Refugees With Dignity: A Lesson From Turkey الكاتب رلى جبريل، Rula Jebreal مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 27/9 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2017/09/27/opinion/turkey-syrian-refugees.html?mcubz=0 عدد الكلمات 1179 ترجمة أحمد عيشة




المصدر
أحمد عيشة