المـناحة: من الأصول الوثنية إلى الاستثمار الدينيّ



مواكب من البشر في الطرقات، عويل آدميّ تنفطر له القلوب، صراخ تهتزّ له الجبال، أناشيد يبكي لها الحجر، سلاسل على الرؤوس، سكاكين تحفر تحت الجلد، دماء متفجّرة من أودية العروق، لافتات تحمل شعارات جنائزيّة، تمثيل اجتماعيّ يُمسْرحُ للمرّة الألف وأكثر واقعة القتل، نواح يرغي ويزبد، أمواج من الأجساد المتلاطمة، غبار معركة قديمة متجدّدة، والمشهد فيه أكثر من ذلك: إنّه سرديّة كربلاء التي يكرّرها الحسينيون في كلّ سنة، يُمسْرحُون موت “شهيدهم” بشكل موغل في العنف والدهشة. لقد مات الحسين كما لو أنّه بطل خارق، وعلى الأغلب، هو ليس كذلك، فمثلما لا ننكر وحشيّة “الشّمر”؛ لا ننكر أنّ المقتول كان مغدورًا أيضًا من قبل ملّته، وجد نفسه وحيدًا في مواجهة جيشٍ لا يمكن أن يرحمه، لذلك فهو قربان مخذول، أمّا شيعته الذين تركوه يخبط جريحًا بين الأنصال والرماح، فهم الآن يكرّرون مشهدية موته، بشكل حاقد، لا يخلو من ندم وزفرة الضمير.

كفّ العقل الشرقيّ والعربيّ عن التفكير منذ أزمنة طويلة، لذلك هو الآن عاطفيّ أكثر منه استقرائيّ، ما جعله في كلّ مرّة ينسب هذه المناحة إلى شيعة الحسين بتمجيدها أو ذمّها، إلا أنّها –ولسوء حظّه- مناحة ضاربة في القدم، تعود أصولها إلى عصور مضت وخلت، ففي سنة 500 قبل الميلاد، صرّح المؤرّخ الإغريقي (هيرودوت) في أثناء زيارته إلى مصر وفي معرض حديثه عن موت الإله (إيزوريس) وبكاء المصريين حذو معبد (إيزيس) بالقول: “إنّهم جميعًا -رجالًا ونساء- يضربون صدورهم، بعد أن يقدّموا الأضحيّة تعبيرًا عن الحزن، وهم يكونون عشرات الآلاف من البشر، أما من أجل مَن يضربون صدورهم؛ فإنّه من غير اللائق أن أقوله”، وهذا دليل قاطع ينمّ عن كون المناحة كانت قد سبقت سرديات التوحيد، كما أنّ زخمها الاجتماعي الراسب في ثقافة بلاد الرافدين مكّنها من البقاء، كما مكّن شيعة الحسين من استثمارها.

كشف الأنثروبولوجي العراقيّ فاضل الربيعي في كتابه (المناحة العظيمة) عن كيفيات تنشيط هذه المناحة وتكرارها من حضارة إلى أخرى، مع اختلافات بسيطة تتغيّر بتغيّر الشروط السوسيو- ثقافيّة لكلّ حضارة، وكما هو معلوم مع الباحث الفرنسيّ (ليفي شتراوس) أنّ الأساطير تتناسج وتتفاعل؛ فتختلف من ثقافة إلى أخرى، لكن جوهرها واحد، وعليه فإنّ ظاهرة البكاء واللطم والنّواح كانت سائدة منذ العهود الجاهليّة، ومثلما تكرّرت مع الظّاهرة التمّوزيّة، منذ ما يقارب ثلاثة آلاف عام مضت، تكرّرت أيضا مع موت (بنبوشاذ)، وكيف ناحت من أجله حتى الأصنام، بما في ذلك “صنم تهامة المسمّى نسرا”، وتكرّرت أيضًا مع “نشيد (لينوس) الذي كان يغنّي في فينيقيا وقبرص وأماكن أخرى، وله اسم خاص بكل شعب. لكن يحدث أن يكون هو نفسه الذي يسميه الإغريق (لينوس)”، لتخترق فيما بعد سرديّة التوحيد الديني، سواء تعلّق الأمر بالمسيحيّة أم بالإسلام مع سقوط “الحسين”.

لقد ناحت (إيزيس) شقيقها (إيزوريس)، وبكته بكاء مرّا، وبكت أيضًا (عشتارُ) عشيقَها (تمّوز)، وبكت المجدليّة كما لم تبك امرأة المسيح، ويبكي الآن الشيعة إلى درجة أنّ العرب باتت تضرب بهم الأمثال، من خلال المثل القائل “أرقّ من دمعة شيعيّ”، ومثلما ولد هذا المشترك بين الأسطوريّ القديم والدّيني المتجدّد، ولدت أيضًا نواة أخرى مشتركة فيما بينهم جميعًا، ألا وهي مقولة الانبعاث، فالإله المطعون (تمّوز) يعود في كلّ ربيع إلى حبيبته  (عشتار)، ولا يحضر في شكله الجسدي الأسطوري، وإنّما من خلال تجسدّه في زهرة شقائق النعمان، ومثلما ابتدعت المسيحيّة مقولة الانبعاث هي الأخرى، تكاد لا تخلو بعض سرديات الشيعة من هذه المقولة هي الأخرى.

في المقابل، ثمّة مغالطة كبرى وجب دحضها بشكل نهائيّ، لقد اعتقد هؤلاء النائحون أنّ ما يقومون به ضرب من اللعب في خيام الألم الأسطوري والديني، ومثلهم يعتقد المنتسبون إلى واقعنا الحالي أن هذا الأمر له وجه ميتافيزيقي صرف، ولكنّ الحقيقة تبدو عكس ذلك، إذ تكشف هذه المناحة المتكرّرة عن كونها نتيجة محنة وثنيّة لا غير. للتدليل على ذلك اقتطع فاضل الربيعي شذرة نصيّة من (كتاب الفلاحة النبطية) لصاحبه “ابن وحشية” تقول: “إنّ هذا الشهر المسمّى (تمّوز)، فيما ذكر النبط ما وجدت في كتبهم، اسم رجل، كانت له قصّة عجيبة طويلة، وقتل، وزعموا، قتلات قبيحة بعضها بعقب بعض”.

إنّ هؤلاء الأبطال الذّين مزّقت أجسادهم وقطّعت أوصالهم، وأرفدهم علينا التاريخ في شكل أساطير، هم أقرب إلى البشر العاديين منهم إلى الآلهة، ولكنّ محنتهم الحياتية التي أودت بهم إلى المنايا، ودفعت بأتباعهم في نهاية المطاف إلى عقد مناحات عظمى من أجلهم، لم تكن في الأصل تمثّل منظورًا ميتافيزيقيًّا، وإنّما حجم الألم المقترن بها هو ما رفعها إلى تلك العظمة وأكسبها هالة مقدّسة، وعلى الأرجح، هي “عقيدة ضاربة في القدم، ارتبطت بفكرة شقاء البشر، وهم يواجهون عصور الجدب والمجاعة وأهوال الطبيعة منذ عصر الجفاف العظيم، حين ضربت المجاعة سائر المنطقة نحو 10 آلاف عام من الآن”.

منذ تلك الأزمنة السحيقة، الإنسان يبحث له عن الخصب، لذلك كلّما عمّت المصائب والجدب؛ علت الأصوات البشريّة بالنّواح والأغاني الجنائزيّة الحزينة، حيث لا ثمّة غير الاندثار والهلع والخوف من الانقراض، ومثل ما هو معلوم، فإنّ مجال اشتغال المناحة كان مقترنا بالأساس بنمط عيش أولئك البشر المؤمنين بها، وهو نمط قائم بالأساس على البيئة الزراعية؛ ما يجعل من رثاء إله الخصب (تمّوز أو غيره) تقليدًا يتكرّر بشكل دائم كما يعطيه مشروعيّة نشاطه في البنى الثقافيّة للمجتمعات، ويكسبه طاقة رمزية كبرى وقدرة خارقة على اختراق الأزمنة والأمكنة.

تتكرّر مشهدية البشر النّائحين بالقوّة والتوهّج القديمين نفسيهما، لأنّها ببساطة وَجدت في مقتل الحسين نوعًا من الاسترداد إلى لحظة الرّعب الأولى والهلع المخيف والشعور بالفناء؛ فإذا بثقافتهم الحالية، من حيث انتسابها إلى سرديّة المقدّس الإسلامي، تتناسج وتتفاعل مع رواسبهم الثقافيّة القديمة، فيكون ثمّة شجن الغناء، والحلم بالانبعاث، والخوف من الموت، والصراخ ضدّ القيظ والعطش واستحضار الماء في شخصية العبّاس، وتشغيل دموع عشتار والمجدليّة والآلهة القديمة في دموع أخوات الحسين، وحضور الأكفان البيضاء، بعد أن كانت تمثّل نوعًا من اللباس المصري في أثناء مناحة إلههم.

لا مناص من القول إنّها مناحة كانت تسرد غوائل الحياة ورعب الفلاح القديم وخوفه من الجدب. إنها ابنة الأرض، لكنّ فظاعة حيفها على البشر جعلتها محنة أسطوريّة وميتافيزيقية فيما بعد، فهي لا تمثّل اختراعًا شيعيًّا، كما أنها لم تأتِ من فراغ، وإنّما يتمّ استثمارها اليوم وتوظيفها دينيًا وسياسيًا، بعد أن تمّ تخصيبها في الديانة الإسلامية، وما تشهده من نزاعات مذهبيّة وطائفيّة.




المصدر
حاتم محمودي