“الموسيقي الأعمى”



سمعتُ حديثًا عن افتتاح مطعم فرنسي مظلم، يخدمك فيه المكفوفون! حبست ‏أنفاسي، وبدأت أتخيل نفسي داخله، عاجزة، على كرسي بعجلات تقودني إحدى ‏المكفوفات! ‏أخذت أفكرُ في نفسي، وبالتقاطع مع واقعي الذي أصبح يدرك المعنى ‎الحقيقي للعجز ‏وضعفه، وذكاء اختراعاته لإخراس من يدَّعون الشفقة! وانهال عليّ سيل من التساؤلات: ‏مكفوفون! كيف‎ ‎يروْن الدنيا في مخيلتهم! كيف يحسون بنا، وبالعالم المحيط بهم؟ ‏هل يحلمون؟ ‎‎هل يفرحون؟ كيف يتألمون؟ كثيرة هي الأسئلة التي راودتني، وأعادتني ‏بذاكرتي، رغمًا عني، إلى من أطلقنا عليه ذات يوم لقب “الموسيقي الأعمى”.

كان موسيقيًا، عازف أكورديون، يمضي معظم أوقاته -هذا ما عرفته لاحقًا- يؤلف ويلحن ‏مسرحيات غنائية، ثم يختار الأصوات الجميلة، ليدربها على غناء أدوار مسرحية من ‏مسرحياته. قيل لي -أيضًا- إنه قرر أن يدرب أطفال إحدى الروضات على أداء‎ ‎أغنية فيروز ‏الحزينة التي غنّتها بعد الهزيمة التي ألحقتها (إسرائيل) بالعرب، في حزيران ‏‏1967، على أن تنتهي كامل التحضيرات للأغنية، وبروفاتها قبل يوم من حلول تلك الذكرى ‏الأليمة، ليكون أداؤها النهائي في‎ ‎ذلك اليوم، وفي أستوديو تلفزيوني، وأمام ‏عدسات كاميراته، كنوع من‎ ‎احتفالياتنا المزركشة، لكسب الرضا الانتهازي.

(أين هي ‏مصيبتنا الحزينة، وأين‎ ‎هي انتهازيتنا؟!).‏

بعد أن قرر، اختار الروضة التي تناسب فنه وعبقريته وحزنه‎ ‎الجميل، ولدعم تلك المهمة ‏أعطته اﻹدارة غرفة مكتب، تليق بشخصيته النبيلة وموهبته الفريدة، وأخرى لينام فيها قرير ‏العين، هانئًا. خلال أوقات العمل، كان يُبقي باب غرفة مكتبه مفتوحًا على مصراع‎ ‎واحد. يجلس على ‏كرسيه بكامل أناقته واضعًا أكورديونه في حضنه،‎ ‎وكأنه في حالة تأهب لبدء عزف ‏موسيقا ما.

لكنه، في حقيقة الأمر، كان ينصت‎ ‎بتأمل دقيق إلى ضجيج أطفال الروضة، مائلًا ‏بوجهه صوب نافذة غرفة مكتبه‎ ‎محكمة اﻹغلاق بقضبان حديدية وزجاج خشبي اﻹطار، ‏تغطيه ستارة بيضاء من قماش رقيق، أعتقد أنهم كانوا يطلقون عليه اسم (الفوال‎ ‎الفرنسي). ثم يغير اتجاه نظراته التي تغطيها نظارة سوداء، نحو حائطها الماسي اللون، ‏ومن ثم يسارع إلى كتابة شيءٍ ما‎ ‎على أوراق غريبة وضعها أمامه بعد كل تأمل خاوٍ، ‏كأنه يرسم نوتات قطعة‎ ‎موسيقية، من وحي ذلك الضجيج الطفولي!‏

كنت أشارك وأراقب تأمله الغريب وغير المفهوم، بملل طفلة لا تعرف إلا‎ ‎اللعب الأرعن، ‏ﻷهرب مستسلمة لقلة الحيلة إلى حديقة الروضة وهوائها المنجد! أتابع عدم اكتراثي ‏البريء على‎ ‎المقعد الخلفي لدراجة جورج ابن مديرة المدرسة، بشعره الأشقر الكثيف وعينيه ‏الزرقاوين واﻷنف اليوناني الصغير. جورج، الذي كنت أعتقد -بسذاجة طفولتي- أنه ‏يكبرني بثلاث سنوات، ولسبب تافه هو أن كتفيه، عند وقوفنا جنبًا إلى جنب، أعلى من ‏كتفيّ، لذلك كان يمضي أوقات استراحاته المدرسية بتواضع سعيد للعب معي.‏‎ ‎في حين ‏أني لم أكن أحب حجز حريتي وراء مقعد الدراسة مع من هم بعمري!.

كان‎ ‎يسمح لي أن ‏أمضي معه كل أوقات استراحته على المقعد الخلفي من دراجته، نتنزه، ونعيد الكَرّة مرارًا ‏دون ملل في حديقة الروضة الفسيحة. كان يقود دراجته‎ ‎بمتعة وفرح وسرعة. تنقلنا من ‏مكان إلى آخر، كمركبة فضائية تنتقل عبر‎ ‎اﻷثير، ضمن حدود حديقة الروضة.

‏كنت، قبل أن أتعرف على ذلك “الموسيقي الأعمى”، أستمتع بدراجة جورج وسرعة‎ ‎تحليقها ‏بأمان ومن دون قلق. نغنّي معًا.. نأكل معًا.. نضحك، نصرخ معًا.. لكن، ذلك‎ ‎الموسيقي عكّر ‏صفو لهونا! أصبحنا لا نتكلم إلا بإشارات وإيماءات‎ ‎صامتة، حتى إن ضحكاتنا أصبحت ‏قهقهات صامتة، مدعين بأنها تكفي‎ ‎استمرار براءة أيامنا وسلامها، وكأننا تنبأنا بحدس ‏طفولي أن الأيام القادمة‎ ‎ستكون أكثر جدية، وستنهي حتى صداقة مرحنا الإيمائي!.‏

كانت أيام الخريف الأولى التي حولتْ، تدريجيًا، نزهات الحديقة السعيدة‎ ‎إلى نزهات تأمل ‏مليء بالدهشة والمفاجأة! أشجار الحديقة مثلًا، تغير لونها من الأخضر إلى البني‎ ‎الشاحب وبالتدريج! كانت مكسوة أوراقًا خضراء، ومن كل الأنواع والأشكال، ومن ثم ‏تساقطتْ أرضًا‎ ‎وبتؤدة، لتعري أغصانها وتتركها عرضة لرياح ذلك الفصل، بتناوب متفق‎ عليه منذ الأيام الأولى لولادة الطبيعة وتوالي فصولها!‏ كانت والدة جورج تقوم بتجميع ما تساقط من تلك الأوراق بمكنسة خاصة في‎ ‎زاوية محمية ‏من الحديقة العزيزة، لتحرقها لاحقًا أثناء غيابنا، أما‎ ‎العصافير التي كانت تحمي أعشاشها ‏تلك الأوراق، فقد اختفت زقزقتها شيئًا‎ ‎فشيئًا، وكأن من أخافنا، أخافها أيضًا، فآثرتْ أن ‏تترك هدوءها المستقر لتهاجر‎ ‎إلى هدوء طبيعة آخر، ريثما تستعيد حديقتها جمالها ورونقها ‏وربيع عمرها من‎ ‎جديد.‏

في نزهاتنا، كنا نمعن النظر في كل زهرة، وفي كل الياسمين الفواح، بفضول شديد‎ ‎وجميل، نشتمّ ‏رائحتها وعبق رحيقها بعفوية غير معلَنة، وبشغف لقطفها. كانت هناك نبتة خضراء، ‏أغصانها تتسلق جدران بناء الروضة التي تحيط غرفها‎ ‎القليلة وطابقيها الاثنين، وهي ‏ببساطة ما ندعوه “فيلا”. جذبنا أسلوب امتداد‎ ‎تلك النبتة الذي سمح لأزهارها بالتنفس بحرية ‏لتبدو مشرقة، وكأنها أشعة مختبئة من‎ ‎نور الشمس الصفراء. كان يبهرنا، وبلهفة مرحة ‏لغز‎ ‎إطلالتها الخفيّ الذي دفعنا، بفضول البراءة، إلى قطف إحداها لنتذوق سحرها‎ ‎اللطيف، الشهي، وعبيرها الفواح، ثم لتتوالى عمليات القطاف مرات متكررة لتشبع‎ ‎جوعنا ‏الكاذب!‏ أجمل ما في الحياة إنسانٌ يقرؤك دون حروف.. يفهمك دون جهد..‎ يسعدك دون خبث. ‏ينتظرك لأنه يحبك دون مقابل! لقد أحببنا أنا وجورج عمرنا القصير المستقطع من ‏روتين الأوامر المتسلطة، وانتظرنا حلوله بفرح. عشنا طوال أشهرٍ ذلك‎ ‎الحب السعيد الذي ‏كانت تكتبه كل قواميس البراءة وطفولتها، حتى صمتنا الذي خلقناه كان يحدثنا بإشارات ‏ممتعة وطفولية، وتحسبًا من‎ ‎سلوك ذلك الشخص الموهوب، غريب الأطوار الذي أطلقنا ‏عليه اسم (الموسيقي‎ ‎الأعمى)!

قرع جرس انتهاء الاستراحة، ليتركني جورج، ويعود إلى دروسه، في الوقت الذي‎ ‎كنت ‏أرفض فيه ذلك الالتزام، وأصر على البقاء في مكتب الإدارة دون أن نملّ أنا وماما ميسون، ‏من فتح أحاديث تناسب سخافة عمري الصغير، ولا تقلل من احترامها‎ كمديرة، وكوالدة ‏حبيبي جورج، في حين كان باب مكتب “الموسيقي الأعمى” ما يزال مفتوحًا، وهو ينصت ‏دون أن يحرك ساكنًا، حتى إنني كنت أخاله ضمن قيلولة‎ ‎الفراغ!

لكن ما حصل أنني انسحبت خلسة عن ناظري ماما ميسون، أثناء حديثها مع‎ ‎أحدهم ‏على الهاتف، لأصل على رؤوس أصابعي إلى باب غرفة ذلك الغريب الذي رأيته‎ ‎بوضعية غريبة أثارت خوفي وقلقي! كانت عيناه تحملقان تجاه النافذة، ودون نظارتيه، ‏ويداه الاثنتان على‎ ‎لوحتي أزرار أكورديونه، وكأنه يستعد لبدء معزوفةٍ ما، وأنا التي ‏اعتقدت‎ ‎أنه غافٍ غفوة الفراغ! كنت أتأمله بحذر، عندما فاجأني بسؤاله:‏‎ سارة، أريد أن أخرج إلى الحديقة، هل تمسكين بيدي لأخرج معك؟‏‎ لم أستطع الإجابة، لارتباكي وارتجافي، لكني مددت يدي سريعًا منفذة ما طُلب مني،‎ وكمن ‏يرى بشكل طبيعي، أمسك يدي وأخذ يتحسسها باستغراب، وقال وهو يأمرني:‏‎ لماذا ما زلت في مكانكِ؟ هيا أخرجيني إلى الحديقة.‏‎

أخرجته وهو ما يزال ممسكًا بيدي. لكن خوفي منه ازداد، عندما طلب مني‎ ‎محددًا ‏المكان، أن أجلسه على جذع شجرة كانت قد قطعت لتصبح شبيهة بكرسي خشبي‎ ‎شبه ‏دائري. بعد جلوسه ببطء، سحبني بقوة وأجلسني في أحضانه، كدمية تنتظر من يحركها، ‏وأخذ يتعرف‎ ‎على ملامح وجهي وقسماته بكلتا يديه وأصابعه، ومن ثم توقف بلمساته ‏عند‎ ‎خصلات شعري، وهو يقول بلطف وهدوء:‏ كم أنت جميلة! وكم هو ناعم شعرك‎! ثم أكمل جسّه الهادئ، الدقيق، المزمجر، لكامل جسدي الصغير، وهو يصدر أصواتًا لا ‏تشبه الغناء وموسيقاه، بعيدة كل البعد عن موهبة عماه. كانت أصواتًا ليست ‏كالأصوات، لكنها زادت شدة خوفي، وقوة ضربات قلبي، وتمنيت لو أستطيع الإفلات‎ ‎من ‏قبضتيه اللتين تحولتا إلى قيد خانق، يلتف حول جسدٍ بريء!

بصراخ عفوي، ناديت:‏‎ جورج ج ج ج. أنجدني!.‏ لبّى جورج الاستغاثة بأسرع من سرعة صوتي، فقد كان يواكب ويراقب الحدث منذ دقائقه ‏الأولى، وطلب مني بصوت غاضب، وهو فوق دراجته: اهربي، حبيبتي، واقفزي خلفي دون ارتباك وتردد..

وهذا ما فعلته، وتوارينا عن الأنظار في زاوية منعزلة في الحديقة، تاركين وحشنا الهمجي ‏لمصير مجهول من دون اكتراث، نهدّئ من روعنا بحب لغته الصامتة. إلى أن سمعنا رحمة ‏نداء ماما ميسون: جورج. سارة.. والدك ينتظرك في الخارج.

صعدت السيارة، وأنا أكثر هدوءًا، ودون تحية حب وقبلاتها؛ قلت:‏ بابا، أنا لا أحب الموسيقي الأعمى. وصلنا البيت، وبقيت ضمن غضب صموت حتى صباح اليوم التالي، لأكون في الروضة. ‏بتحفظ حذر، قررت أن أنتظر جورج في الحديقة، في الوقت‎ ‎الذي سمعت صوته يناديني ‏بعنف وغضب:‏ سارة..‏ وبسرعة مجنونة، كنت مزروعة قبالته في مكتبه.‏‎ قال: أعرف أن صوتكِ جميل؛ لذلك سنبدأ غدًا بالتحضير لأغنية (مدينة المدائن) وأنت من ‏سيؤدي دور فيروز! خرجت ممتعضة دون إذن، وكان جورج بانتظاري في الحديقة، وسمع كل ما قاله ذلك ‏اﻷرعن‎‎‏!‎ وقال: لا عليك، سارة، سأكون معك باستمرار.‏

بدأنا تدريباتنا اليومية التي استمرت خمسة أشهر. خلالها، طلب مني ومن الأخريات ‏اللواتي كنّ مجرد كورال، أن نفصل فساتين “باليرينا” بيضاء اللون، مع أحذيتها الخاصة. ‏كنت قلقة جدًا لأنه اختار الفتيات فقط للانضمام إلى الكورال، وهذا يعني أن جورج لن يكون هناك، وهذا ما زاد قلقي وحزني.

وحدث ما توقعناه…

عندما أنهينا تدريباتنا على أكمل وجه؛ طلب منا، قبل يوم التصوير، الحضورَ يوم الجمعة ‏بزينا الأبيض الملائكي للقيام بالبروفة الأخيرة لتلك الأغنية الحزينة. لكني، ومن جديد لم ‏أستطع التكلم مع جورج، عندما رأيته إلا بإيماءاتنا ونظراتنا المفهومة.

استيقظت باكرًا يوم الجمعة كالعادة، وكأنه يوم مدرسي، على الرغم من أن موعد ‏الاجتماع في الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم، بعد أن ينتهي أستاذنا المبجل من صلاة ‏يوم الجمعة. كان يومًا ربيعيًا دافئًا. وصلنا المدرسة أنا ووالدي. تركته بعد قبلتيّ حب. ‏ركضتُ أرفرف بزهوّ ببياض ملائكي ساحر.‏ أعجبتُ بعد انتهائي من البروفة بغنائي. كنتُ سعيدة، ضاحكة. صفق لي الجميع بقوة، ‏بمن فيهم أستاذي المبجل، لا أطال الله عمر أمثاله!

انصرف الجميع بعد أن شكرَنا، ‏وأعطانا تعليمات الحضور من بعد ظهر اليوم التالي، من أجل تصوير الأغنية في ‏أستوديوهات التلفزيون. لم يبقَ في الصالة غيري في انتظار‏ والدي لأطير معه أنا وفرحي! لكني سمعت اسمي بقوة: سارة.. تعالي أريدك.

كملاكٍ نسي سلامه، ركضتُ باتجاه غرفة مكتبه، بينما أحدهم فاجأني، وسحبني بعنف ‏داخل ذلك المكتب!

خوفي وألمي من تلك القبضتين جعلاني لا أميز إلا ما أخجل من ‏قول اسمه في ذلك الحين، وما دُرِّبتُ بحياء وخجل على وصفه! لقد شاهدتُ “حمامة” ‏ذلك “الموسيقي الأعمى”، وكانت “أقبح حمامة”، عرفتْها طفلة، وفي أجمل لحظات ‏سعادتها! حاولت خلاصًا دون فائدة. كان غائبًا عن الوعي. ينتفض بصراخ وحشي. ‏مزّق ثوب “الباليرينا”، وصفعني على وجهي، ثم حاول أن يمسك عشوني (فرجي)، لكني ‏صرخت بكل قوتي، وعضضت أنفه بأسناني! وصرخت: “جوووورج، أنقذني”.

وكما المرة الأولى، وأسرع من صرختي، كان جورج بقربي، وبكل ما أوتي من قوة ‏الغضب، حرّرني من براثن رغبته المتوحشة، في حين أمسك جورج يدي، وخرجنا إلى الحديقة ‏ليوصلني بدراجته إلى المنزل. طوال طريق العودة، كنت أضمه إلي وأنا أرتجف خوفًا، ‏ودموعي تنهمر سيولًا على وجنتيّ. وصلنا، ضمني إلى صدره مطمْئنًا: لا تخافي، حبيبتي، أنا معك.‏

ثم، قبّلني متمنيًا لي غناءً ناجحًا. قرعت جرس البيت وفتحت لي أمي، لكني سقطت ‏غائبة عن الوعي، وعرفت فيما بعد أن حرارتي جاوزت الأربعين، وكنت أهلوس خلال ‏يومين، وأقول وأنا أصرخ بخوف: أمسكوه. إنه هناك. بابا، بابا أمسكه إنه يريد قتلي!

منذ ذلك اليوم المشؤوم، لم أرَ جورج، وحرم عليّ الذهاب إلى تلك الروضة، ولم يذكر ‏أحدهم أمامي ذلك “الوحش الأعمى”، لكن الأغنية صُوّرتْ وحلّت تلميذة أخرى ‏محلّي.‏ ومنذ ذلك اليوم أنا لا أغنّي إلا أمامي ولي!.




المصدر
سوسن سلامة