تأملات في سردية المظلومية الكردية



على الرغم من كل ما قيل وقلت عن أسباب الدعوة إلى الاستفتاء الكردستاني وتوقيتها، أتمنّى مخلصاً أن تكون المصاعب التي ستواجه كردستان إقليمياً ودولياً آلام مخاض مصاحبة ولادة جمهورية مستقلة، لا آلام جرح غائر لا علاج له إلا بعملية خياطة تعيده إلى الجسم الذي كاد ينفصل عنه. أتمنّى أن تروي كتب التاريخ المدرسي الكردية قصص ولادة الجمهورية ضمن السرديات الرومانسية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للبلدان التي حققت أهدافها في الاستقلال والتحرر، ولا أتمنى لها أن تُضاف إلى سلسلة من السرديات المأسوية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للمهزومين، وفي مقدمهم القوميون العرب، عن أمة ينشغل قادة العالم منذ قرن بالتآمر عليها. ستنطوي سردية الانتصار الرسمية على قصّة شعب أعزل إلّا من إرادته وقف في وجه العالم كله وأجبره على الاقتناع بحقه في تقرير مصيره بعد قرن من العذابات. ستلهب صورة النبي الفتيّ الشاب داود الذي صرع الوحش الوثني غولياث، الحماسة والخيال.
لا يمكن منصفاً أن يبخس دور القوى الخارجية في التسبّب بالمآسي التي تعرّض لها الشعب الكردي. ولكن، آن الأوان للمثقفين الديموقراطيين، والكرد منهم بوجه خاص، أن يتجاوزوا سردية مظلومية الشعب الكردي التي تخدّر الوعي الشعبي وتريحه من التفكير، وأن يلعبوا دوراً تنويرياً يكشف للجمهور العوامل الداخلية التي ساهمت في حرمان الأكراد من حقهم في إنشاء دولة خاصة بهم. فليس الأكراد وحدهم من تعرّض لمؤامرات الاستعمار وليسوا الوحيدين الذين توزّعوا في أكثر من دولة. هذه هي حال مئات الشعوب في شبه القارة الهندية وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا. ولو تمتعت كل إثنية بدولتها الخاصة لتجاوز عدد الدول القائمة اليوم الخمسمئة.
امتلاك الشجاعة وقدرة التفسير والتنظير مطلوبان الآن أكثر من أي وقت مضى لأن سردية المظلومية على يد قوى خارجية كانت عبر التاريخ أقصر الطرق لإقامة نظم حكم عدوانية متعصبة واستبدادية تستمد مشروعيتها شعبياً من تعبئة الغالبية بروح الحقد والرغبة في الانتقام من عدو خارجي مفتَرَض وإلهائها عن النظر إلى العوامل الداخلية وعن البحث عن إصلاح البنى الداخلية المهترئة التي حرمت الشعب من نيل حقوقه والارتقاء بمستوى رفاهيته. ذلك هو ما آلت إليه سرديات (لا أضعها على قدم المساواة قطعاً) النازيين عن مظلومية الأمة الألمانية على يد اليهود، وسرديات اليهود عن مظلوميتهم على يد الأوروبيين ومن ثم العرب، وسرديات البعث والإسلاميين عن مظلومية العرب على يد الغرب و «صنيعته» إسرائيل وسرديات السياسة الشيعية عن مظلومية الشيعة على يد السنّة، والقائمة تطول.
المنظور التنويري مطلوب الآن لكي يفسّر للمواطن الكردي (ومن شاء التعلّم من قادته) الأسباب التي قادت معظم تحالفات الكرد الخارجية طوال أكثر من قرن لا إلى الفشل فقط، بل إلى نتائج فاجعة. قد يكون السيد بارزاني محقّاً في قوله أن الوقائع الجديدة على الأرض ستدفع دولاً إلى تغيير مواقفها، لكن هذا التغيير قد لا يكون في مصلحة كردستان بالضرورة. والسيناريو الذي يحضرني هنا هو أن ترمي الولايات المتحدّة بثقلها وراء العبادي إن رأت أن الوقوف إلى جانب الكرد يعني صعود المالكي وأتباع إيران المقعقعون بطبول الحرب باسم الحفاظ «على وحدة الوطن وعدم خلق إسرائيل جديدة».
المنظور التنويري يمكن أن يفتح نقاشاً مجدياً عن جهل القادة الأكراد الفاضح في العالم الخارجي على الرغم من امتلاك الكرد بعضاً من أفضل الناشطين في العلاقات الخارجية، وعلى الرغم من إنفاقهم البلايين على لوبيات ومستشارين في الغرب. وهو مطلوب لكي يتفهم الأكراد كيف أن قادتهم كانوا مجبرين على الدخول في تحالفات خاسرة في أحيان أخرى بسبب الحصار الإقليمي المفروض عليهم.
لكن هذا المنظور مطلوب بالدرجة الأولى لكي يدرك المواطن الكردي أن الاعتراف بالتباين بين البنى الاجتماعية الكردية وتعذّر اندماجها في كيان سياسي واحد لا يتناقض أبداً مع الاعتراف بوجود هوية قومية كردية تجمع تلك البنى. فطوال أكثر من قرن كان تركيز القادة الكرد على العدو الخارجي وإغماض أعينهم عن المآزق الداخلية، سبباً في انهيار مشروع إقامة الدولة القومية.
يلخّص السيد مسعود بارزاني سردية المظلومية الكردية، إذ يلعن اتفاقيّة سايكس – بيكو التي قرّرت تقطيع أوصال كردستان وإلحاقها بأربع دول تسودها إثنيات أخرى. ولا بد أنه يبهر جمهرة الكرد حين يعلن بزهو أن عصر سايكس – بيكو الذي رسم حدوداً لدول مصطنعة أوشك على الزوال. أتخيّل مستشاراً تنويرياً له يهمس في أذنه «لو عرفت تاريخ كردستان في فترة انهيار الدولة العثمانية، يا سيادة الرئيس، لترحّمت على روحي سايكس وبيكو، وأثق في أنك ستقيم نصباً تذكارياً للسير مارك سايكس تحديداً».
لن أكرّر ما كتب غيري وكتبت أنا مراراً: لم تر وثيقة سايكس – بيكو ولا أي من بنودها النور لأن المنتصرين في الحرب العالمية الأولى اكتشفوا أن ثمة وقائع جذرية جديدة نشأت على الأرض جعلت تطبيقها مستحيلاً. ولكن، لو أن تلك الاتفاقية رأت النور، لكان بعضاً من حقوق الكرد تحقق. فلم يكن في تلك الاتفاقية كيان اسمه «العراق»، بل لم يكن ثمة تكوين يجمع أطرافه العربية. نصّت الاتفاقية على أن تكون المنطقة الممتدة من البصرة إلى شمال بغداد مستعمرة يحكمها البريطانيون في شكل مباشر وأن تكون المنطقة الممتدة من كركوك إلى جنوب فلسطين دولة يحكمها أبناؤها تحت الانتداب البريطاني. وكانت ولاية الموصل (التي لم تشمل كركوك) ستمتد إلى حلب لتكوّن دولة تخضع للانتداب الفرنسي يتوحد فيها أكراد العراق وسورية، فضلاً عن ضمّها أجزاء من كردستان التركية. أمّا فارس وأكرادها فكانت في منأى عن كل الاتفاقيات، إذ لم تكن طرفاً في الحرب وكانت الحدود بين أكرادها وأكراد الدولة العثمانية رسمت في شكل نهائي عام 1847، إذ تنازلت الأخيرة عن حقها في خوزستان – عربستان مقابل تنازل الأولى عن حقها في السليمانية.
مع هذا، ليست اتفاقية السير مارك سايكس مع فرنسوا جورج بيكو هي ما يؤهل الأول للحصول على نصب تذكاري في كردستان، بل دفاعه وعمله المخلص على تشكيل دولة «كردستان الجنوبية»، أي كردستان عراق اليوم مع لواحق من كردستان التركية بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.
لماذا لم تنهض الدولة الكردية إذاً؟ هذا ما تقوله الوثائق البريطانية: «كان هناك عدد من المرشحين (لقيادة كردستان)، وكان الشيخ محمود هو الأكثر بروزاً… فقد ادّعى من السليمانية بقيادته كلَّ كردستان، ولكن حتى البلدات المجاورة مثل كفري وخانقين تبرّأت منه، ناهيك بالقبائل المجاورة… ولم تكن ثمة إمكانية للقبول به في الأماكن الأبعد، حيث كان بالكاد معروفاً».
يلخّص مكدوال الذي يتّفق معظم الباحثين الكرد على تعاطفه مع قضية شعبهم، مآل المحنة الكردستانية، مقتطفاً من الوثائق البريطانية: «صار واضحاً للإداريين البريطانيين أن [مشروع] كردستان جنوبية موحّدة لم يكن قابلاً للتطبيق الفوري… بسبب الحال المتخلّفة للبلاد ونقص إمكانات التواصل وتنافر القبائل. وكان ثمة إدراك في الوقت ذاته أن جنوب كردستان كان متبادلاً الاعتماد مع سهول ما بين النهرين من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية».
هل كان عرب العراق أكثر وعياً بهويّتهم العراقية من وعي الأكراد بهويتهم الكردية عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى؟ شغلي البحثي يجيب بالنفي.
للجغرافية والبيئة والتكنولوجيا نعمها ونقمها. انبساط الأرض والتواصل عبر نهري دجلة والفرات وتطوّر النقل البخاري أشعر البغدادي والبصري والموصلي وحتى الكردي بحاجة أحدهم إلى الآخر حتى وهم يشعرون بالتمايز. أما بيئة كردستان فكانت نقمة على شعبها، إذ عزلت حواضرها وأريافها عن بعضها بعضاً وجعلت اقتصاد كل من مناطقها مرتبطاً ببيئة غير كردية محيطة بها وتفارقت لهجات اللغة الكردية بسبب تلك العزلة بدرجة تكاد تقارب التفارق بين لهجات المغرب والمشرق العربية.
لعل من يقرأ ما سبق ويوافق عليه يعيد النظر في حكمة شائعة في كردستان (أكررها أنا أيضاً): ليس للأكراد صديق غير الجبل. لعل هذا الجبل الذي حماهم من الغزاة كان السور الذي عطّل وحدتهم.

(*) كاتب عراقي




المصدر
الحياة