ماذا تريد “حماس” من سلطة بشار؟



شهدت الأشهر الأخيرة انزياحاتٍ واضحة في علاقات حركة (حماس)، عربيًا وإقليميًا، كما شهدت تغييرًا في الاتجاه السياسي لخطابها، بشأن تسوية القضية الفلسطينية، حين قبلت ما كانت ترفضه وتعدّه تنازلًا عن حقوق الفلسطينيين الوطنية، بل لم تتردد في توصيفه “بالخيانة” لأهداف النضال الفلسطيني. والمقصود هنا برنامج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (إقامة الدولة على جزء من أرض فلسطين، عبر التفاوض مع إسرائيل).
لقد حاولت الدعاية الحمساوية تقديمَ ما ظهر في مواقفها وعلاقاتها، تحت ستار الضرورات التي تقتضيها “المصلحة الوطنية”، وهي بهذا الادعاء إنما تراهن على ضعف ذاكرة الشعب الفلسطيني، معتقدة أنها تستطيع إقناعه بالتفافاتها السياسية، ومثل هذا الاعتقاد يشف عن نكران لخبرة التجربة الطويلة للفلسطينيين، وقدرتهم على فهم حقيقة تلك الالتفافات في المواقف، وفي السياسات ذات الصلة بصلب القضية الفلسطينية.
في غضون هذه الانزياحات، برز في الأسابيع الأخيرة غزلٌ مع سلطة بشار، ومرونة في التعبير عن الموقف منها؛ وهو ما يُشكّل تمهيدًا لاستئناف العلاقة مع نظام الطاغية الدموي الهمجي، وكانت تلك العلاقة قد اختلت، ثم انقطعت، إبان الشهور الأولى من عمر الثورة السورية. وكانت عودة علاقاتها الودية مع طهران -بعد تدهور وفتور دام أكثر من أربع سنوات- علامةً واضحةً على الاستعداد للسير على خُطا السياسة الإيرانية في أجنداتها نحو المنطقة، وبالذات في علاقتها مع نظام بشار.
والسؤال هنا: ما الذي تريده قيادة حركة (حماس) من وراء “تطبيع” العلاقة مع الطغمة المستبدة في سورية؟ ذريعة الحاجة إلى حدود الجبهة السورية لـ “مقاومة إسرائيل” كانت لها، في السبعينيات والثمانينيات، زاوية نظر مختلفة، على الرغم من أنها كانت ذريعة سخيفة، وكان مطلقوها يتجاهلون حماية حافظ الأسد لحدود الجولان. فالحدود السورية في عهد سلطة آل الأسد هي أكثر حدود آمنة بين دول العالم التي بينها صراعات أو تناقضات. واليوم، في محاولة من سلطة الطغيان لكسب ود (إسرائيل)، للبقاء في السلطة؛ صارت أكثر رضوخًا لإملاءات “أمن إسرائيل” مباشرة، بتصريحات رجالاتها، ومداورة عبر موسكو واتفاقات بوتين – نتنياهو على مفهوم “أمن إسرائيل”، خلال الصراع في سورية وعليها. ومن البداية، وقبل خروج (حماس) من سورية 2011، لم يكن وجودها في سورية موظفًا لشن الهجمات على (إسرائيل) من الجولان، ولا حتى من جنوب لبنان.
كانت فصائل المقاومة، في العقود الخمسة الماضية التي هي عمر النضال الفلسطيني المعاصر، تسوغ علاقاتها، مع هذا البلد أو ذاك، بالحاجة إلى الدعم المالي لتستطيع الاستمرار، وتلبية حاجات النضال، ولم تكن سلطة الأسد تُقدّم دعمًا ماليًا لفصائل الثورة، إنما كانت تسرق ما تقتطعه من الموظفين باسم فلسطين، وتضعه في خدمة أجهزتها الأمنية باسم “فلسطين”، حتى ما يدعى “جيش التحرير الفلسطيني” الذي يأتمر بقرارات السلطة السورية، كان تمويله يقتطع من الصندوق القومي الفلسطيني. زد على ذلك أن ضباط أمن النظام كانوا يتسولون المال من قادة الفصائل، ويبتزونهم مقابل تسيير شؤونهم الإدارية. و(حماس) تعلم بهذا الابتزاز، لأنها كانت تقدم الرِّشا للمسؤولين في سلطة الأسد، بالملايين، حتى ييسروا لكوادرها شؤون السكن والتنقل والتملك. واليوم إذ تسعى (حماس) لإعادة العلاقة مع سلطة بشار؛ فالأمر لا يرتبط بهذا الجانب المالي والمادي.
أما إذا ادّعت قيادة حماس أنها تريد، من عودة علاقتها مع سلطة بشار، التواصلَ مع الفلسطينيين في سورية، ورعاية مصالحهم وحقوقهم المعيشية، فإن الفلسطينيين هجّروا بأكثر من نصف تعدادهم، ودُمّرت مخيماتهم، وسبق أن كانت (حماس) وكافة الفصائل تعمل في دمشق، وما استطاعوا جميعًا رفع الخطر عن أبناء المخيمات وعن فلسطينيي سورية، وفصائل منهم شاركت في صنع الخطر والقتل والتدمير، بوقوفها مع سلطة الطاغية بحجة “الممانعة” الممجوجة والمتهالكة.
أين إذًا يمكن أن نجد الدوافع الحقيقية لـ “عودة الابن الضال” إلى حظيرة نظام الاستبداد؟
معروف أن نشوء حركة حماس جاء في مسار البحث عن دور كبير في الإمساك بالسلطة على حساب منظمة التحرير، وكانت شعارات (استمرار الكفاح المسلح، ورفض التسوية والاستسلام للعدو!) مجرد بروباغاندا لتبرير وجودها على النقيض من قيادة منظمة التحرير، والسلطة التي نتجت عن اتفاق أوسلو. وتحت هذه الشعارات، بررت علاقتها مع سلطة الأسد التي تدعي بدورها أنها في خندق “الصمود والمقاومة والممانعة”. ولأنها مؤخرًا زحفت لتقف على أرض “برنامج خصمها” السلطة والمنظمة، وأوقفت أعمالها العسكرية ضد (إسرائيل)، فهي لن تتخلى عن موقعها كسلطة، جاءت بانقلاب عسكري، وفرضت نفسها على الفلسطينيين في غزة، وللتنصل من مسؤوليتها في “الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني”، دون التخلي عن مكتسباتها الذاتية التي حققتها منذ الانقلاب على منظمة التحرير، فهي تريد استجماع أوراق الدعم من أنظمة المنطقة، وبدأت من طهران التي تمسك برقبة الأسد وتستخدمه في أجنداتها الإقليمية، ثم ذهبت إلى نظام السيسي في مصر، ووضعت نفسها تحت تصرفه في موضوع “إنهاء الانقسام”، كما في المداولات الجارية حول البحث عن تحريك عجلة “التسوية مع الفلسطينيين”. وهي في هذا الاتجاه تعمل لتعزيز مواقعها الإقليمية؛ لتكون أقوى في مواجهة خصمها “سلطة عباس وقيادة منظمة التحرير”. وعلى الرغم من انحطاط مكانة الأسد وعجزه عن حماية بقائه، فإن علاقة السلطة الفلسطينية معه، كعلاقة هادئة، وطبيعية، تريد (حماس) منافسته عليها، لتقوي موقعها في الصراع الفلسطيني الداخلي، فمجرد أن يكون توجه (حماس) لتطبيع العلاقة مع الأسد توافقًا مع استراتيجية طهران في سورية؛ تكون (حماس) مضطرة إلى السير بهذا الاتجاه.
أما عن (حماس) والانحياز للثورة السورية مع انطلاقها 2011، فالحقيقة في ذلك أنه جاء اضطرارًا، بعد أن طلبت سلطة بشار من قادتها الإعلان عن تأييده “ضد المؤامرة”، وهي الاسم الذي استخدمه في تعريفه للثورة. ولم يقبل فكرة الحياد الذي حاولت قيادة حماس الاحتماء به، واليوم. ربما تستسهل (حماس) العودة إلى حظيرة الأسد معتقدة أن ثورة الحرية في سورية قد انتهت، لكنها ستكتشف خطأ تقديرها، وسيراها الفلسطينيون والسوريون “حركة انتهازية”، منهجها هو المصلحة الذاتية الضيقة.




المصدر
مصطفى الولي