وأيضًا هناك محامٍ نذل



إذا كانت الثقافة، كما قال الصديق غسان جباعي في مقاله بـ (جيرون): “هي الملاك الحارس والسد المانع الذي يقف في وجه القباحة والشر”؛ فإن مهنة المحاماة هي الملاك الحارس للحق الذي يقف في مواجه الظلم، دفاعًا عن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه. وهي مهنة نبيلة لأن من ينتمي إليها يقسِم -أولًا وقبل أي شيء- على الدفاع عن حقوق الناس والوصول إلى الحقيقة بكل صدق وأمانة. وهي المهنة التي وصفها (جاز إيزورني) أحد المحامين الفرنسيين الكبار مفتخرًا: “إنه لفخر للمرء أن يكون محاميًا؛ ليبقى مستقلًا لا ينتظر من السلطة شيئًا، ويتكلم بصوت عالٍ، من دون أن يقصّر في قول كلمة الحق، ولا ينتظر شيئًا إلا من ذاته”.

ما قاله ذلك المحامي الفرنسي لا يمكن قوله -مع الأسف- على واقع مهنة المحاماة اليوم في سورية، حيث لم تعد مهنة المحاماة بذاتها تؤهل صاحبها إلى أن يكون شخصًا ذا معنى في المجتمع، بعد أن تحولت نقابة المحامين بكل فروعها إلى مجرد جهاز من أجهزة النظام الحاكم، كغيرها من النقابات المهنية والعمالية، فضلًا عن أنّ دراسة القانون أصبحت بفضل نظام التعليم المتبع اختيارًا قسريًا للكثير ممن يقصدون كلية الحقوق، هذا النظام الذي يدفع إليها سنويًا الآلاف من طلبة الثانوية العامة من أصحاب المجاميع المتدنية، لتلفظهم بعد عدة سنوات أعباءً على مهنة المحاماة لا قيمة مضافة إليها؛ لتختنق مهنة المحامين بأعداد المنضمين إليها الذين يعيش أغلبهم على الكفاف، باستثناء قلة من أصحاب النفوذ وبعض الأسماء اللامعة، وباستثناء عصابة من المحامين، باع أفرادها أنفسهم للشيطان، واحترفوا استغلال صفتهم المهنية، كمحامين، ومعرفتهم بدهاليز وخبايا وثغرات القوانين، ليس للدفاع عن المظلومين أو عن حقوق الناس، بل للتحايل على القانون وتعطيل تنفيذ الأحكام وإلباس الباطل ثوب الحق، وإضفاء الشرعية على أوضاع غير قانونية. ولذلك لم يكن مستغربًا أن نجد أنّ الغالبية من عامة السوريين وأواسطهم باتوا يتجنبون التعامل مع المحامين، ما استطاعوا، إلا إذا دعت الضرورة.

هكذا كان وضع مهنة المحاماة في سورية، قبل اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وجاءت الثورة السورية؛ لتكشف القناع عن نذالة عددٍ من المحامين وتظهرهم على حقيقتهم السافلة بعد أن تخلّوا نهائيًا عن إيمانهم الذي أقسموا على العمل به، يومَ انتسابهم إلى نقابة المحامين، هؤلاء المحامون الذين كشفوا عن وجههم القبيح وتخلّو عن أي وازع أخلاقي، باتوا اليوم يجاهرون، بل يتفاخرون في استغلال المأساة التي يعيشها السوريون، لأجل حفنة من مال يملؤون بها جيوبهم، وليس هذا وحسب، بل إن بعضهم لم يجدْ أي حرج في سلوك أي طريق، مهما كان بشعًا وغير إنساني، بالاحتيال والتزوير والكذب واختلاق أمور غير صحيحة حتى وصلت الأمور بهم إلى ادعاء إحياء الموتى من القبور، كل ذلك لإيهام الضحايا بأنهم  قادرون على فعل أيّ شيء. آلاف -إن لم نقل عشرات الآلاف- من السوريين من أهالي المعتقلين وقعوا ضحايا بالجملة، لسلوك هؤلاء المحامين الأنذال وجشعهم غير المحدود، آلاف القصص تناقلتها ألسنة السوريين -وما زالوا يتناقلونها- فيما بينهم عن نذالة هؤلاء المحامين وأفعالهم الخسيسة، حتى كادت أن تغطّي على مأساة السوريين في قتلهم وتهجيرهم وتدمير ممتلكاتهم.

فهل هناك أنذل وأحقر ممن حَلفَ يمينًا بأن يدافع عن حقوق الناس بكل صدق وأمانة، ثمّ شرع يعمل، بكل خِسّة ودناءة، على استغلال مآسي الناس وابتزازهم بأي طريقة!

مع كل حقارة ونذالة بعض المحامين، وعلى الرغم من قساوة الظروف التي تمر بها سورية، فما زال هناك محامون ومحاميات قابضين على الجمر، بصمودهم وسلوكهم المهني الذي يضيء هذه العتمة التي نعيشها اليوم، ويؤكدون كل يوم أن مهنة المحاماة ستبقى من أهم المهن وأشرفها جوهرًا، وهي التي قال عنها (هنري روبير) نقيب محامي باريس الأسبق: “هذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها، والموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره، والأصل فيها نيل الشرف وخدمة العدالة، ومساعدة صاحب الحق على أخذه، ومقاومة الباطل والمبطلين”.

وأخيرًا، أتمنّى على الصديق غسان الجباعي، إذا أراد الكتابة عن الأنذال مرة أخرى، أن لا ينسى الإشارة إلى أن هناك أيضًا محاميًا نذلًا.




المصدر
ميشال شماس