د.عزة عبد القادر
فيما مضى عندما كنت في الجامعة وكان ذلك في بداية التسعينات وبالتقريب في عام 1995، تعرفت على مجموعة من الفتيات المتدينات حيث كانت تجمعني بهم بعض الحلقات النقاشية بمسجد كلية الآداب جامعة عين شمس ، وقد عرفت فيما بعد إنهم دأبوا على إستقطاع أوقات طويلة من يومياتهم الدراسية من أجل الدعوة الإسلامية ، وقد بادر بعض منهم للإلتحاق بمعهد الدعوة الإسلامية ، وذلك بهدف الإلمام بمباديء الشريعة الإسلامية والتعمق في دراسة سيرة نبينا الكريم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وقد بهرني حقيقة كم الثقافة الدينية وحسن الخطابة لهؤلاء الطالبات البارعات ، وكم كان استمتاعي وأنا أسمع القرآن بأصواتهم الرنانة الخاشعة .
في أحد الأيام أقام مسجد كلية الآداب حفلة ومسابقة دينية ، كان المشهد جميلاً والزينة تملأ الأركان ، حتى قبلة الصلاة كانت مزينة بالألوان الذهبية والكرات الحمراء ، ما أجمل تلك المناسبات التي تجعلنا ننظف وننسق بيوت الله عز وجل .
بدأت حفلة الإنشاد الغنائي الرائعة وهالني النظام والروعة ، والأكثر من ذلك كانت هناك مفاجآت ، فقد تم تحضير جوائز رمزية فريدة بغرض توزيعها على المهرة والمتميزين ، حيث وجهت الأسئلة الدينية لتجيب عنها الفتيات بعبقرية ليس لها مثيل ، لتحصل كل واحدة منهن على الهدية البسيطة وكأنها خاتم من الذهب أو الألماس الخالص ، كل ذلك وأنا أراقب ما يحدث وأشعر بسعادة وفخر كبير بأن في مصر بلدنا وفي جامعتنا نرى هؤلاء البنات صغار السن الذين يمتلكون هذا القدر الكبير من المعلومات الدينية في القرآن الكريم الذي يحفظونه عن ظهر قلب وفي علوم الحديث الشريف والسنة النبوية التي يفسرونها بدقة واتقان ، وبالطبع كان أكثر ما جعلني أحس بالفرح إنهم أحضروا بعض الدفوف الصغيرة ليتغنوا بأجمل الأشعار ، وهذا هو ما دفعني بسرعة لأسأل إحداهن ، إذن أنتم تحبون الموسيقى والمعازف ، هي ليست حراماً كما يشيع البعض ، فابتسمت الفتاة الرقيقة في وجهي وقالت لي بصوت منخفض : الغناء ليس محرماً، فإن ما ينهى عنه الشرع هو فحش الكلام وبذاءته ، لكن المشكلة في الموسيقى المصاحبة للغناء فهي تشغل القلب وتلهي عن الذكر ، فالموسيقى تمس القلب، قلت لها باضطراب : انتم تحبون إنشاد الاشعار على الدفوف فكيف تنزعجون من الموسيقى ؟
قالت: إنها تشغل قلبي وتأخذني من قراءة القرآن وكثرة الذكر ، فقلت لها : فهل انا مذنبة اذن لأنني استمع للموسيقى وجميع انواع الغناء؟
قالت وهي مبتسمة : لا لا نحن لم نقل ذلك ، كثير من الشباب والفتيات يحبون الفن والموسيقى ، لكن الأفضل هو الإستماع للقرآن والاناشيد الدينية والوطنية ، فقلت لها : لكن ابن حزم يحلل الموسيقى وكان يستمع لها ، قالت : لا عليك ليس هناك مشكلة،انتي تأخذين برأيه ونحن نميل للإمام ابن حنبل الذي يعمل بالأحاديث الشريفة جميعها حتى الاحاديث الضعيفة التي تحرم المعازف جميعها ، فنحن نطمئن لذلك ونشعر بارتياح .
كان هؤلاء الفتيات الرائعات ينتمون للفكر السلفي ، يعشقون فكر الامام ابن تيمية رحمه الله ويجلون فكر الامام ابن العثيمين ، كانت تلك هي مصر ذلك الوطن الذي لا ينقسم فيه المسلمين لفرق وجماعات مشتتة ضعيفة ، كان يجمعنا الوطن بكافة عقائدنا وميولنا ، كان الشباب المشاكس يجلس بجوار الشباب المتدين ،ولا يقول احد هذا سلفي وهذا ليبرالي وهذا إخواني او هذا علماني .
كانت الفتيات المنتقبات تصاحب الفتيات المتبرجات ولا يتطاول احدهما على الآخر ، ولا تلوم إحداهن على الاخرى فكرها وسلوكها .
كانت تلك هي مصر قبل ان نبتلى ببعض الاعلاميين والكتاب المنافقين والمتطرفين فكرياً الذين يصنفون الناس بحسب هواهم ، فإنهم يرون المتدينين ومقاطعي الفن والموسيقى هم بالتأكيد من السلفيين حسب ما يدعون ، ويقولون انهم تكفيرين لمجرد انهم لا يحبون السينما والموسيقى ، لكنهم يعتبرون الملحدين احراراً ويدافعون عن حقهم في التعبير .
لكن المشكلة الآن ليست في الاعلاميين الذين تم الكشف عن زيفهم وكذبهم ، لكن الكارثة في هذا النظام القمعي الذي استطاع غسل عقول العامة من الناس منذ عشرون عاماً ، استطاع اعلام النظم القمعية ان يخرب عقولنا .
اذا كنا نؤمن بالحرية والعدل فالأولى ان ندافع ونحمي الفكر المتدين الراقي وليس العكس ، وهذا لا يعني تأييد كل الأفكار السلفية ، فليس من المعقول ان نظل نتحدث ونتجادل عن شكل اللحية والنقاب وعن آراؤهم في مقاطعة الفن ونترك الحديث عن جوهر الدين الإسلامي الحنيف ، فالأساس في عقيدتنا هو إحياء الأرواح والدفاع عن المظلومين ، فليس من المنطق تنحية فريضة الجهاد في سبيل الله والتهاون في حق الشهداء والمعتقلين ، لنتحدث في أمور فرعية في الدين .
ورغم معرفتي واستيعابي لمدى الاستفزاز الذي يتعرض له إخواننا السلفيين على أيدي بعض العلمانيين المتطرفيين فكريا ، بداية من سخريتهم من الجماعات الوهابية بدعوى انهم يرونهم متخلفين لمقاطعتهم الفنون ، وهذا بالطبع بعيد تماما عن الحقيقة والصحة ، لأن الجماعة السلفية تعد من ضمن الجماعات المتميزة الذين يمتلكون عقيدة وفكرا راقياً كان دائما ما يقدم خدمات جليلة للحضارة الإسلامية ، وحتى لو اختلفنا مع مجموعة من الأفكار فإننا يجب ان نعترف انهم يمتلكون رؤية جيدة لم تدعو ابدا الى باطل او تدعو الى فحش ، بل ولم تدعو يوما إلى تطرف ، ولكن هذا دأب المخرفين والصحفيين المنافقين الذين يدافعون عن حرية العرى وحرية القتل وسفك الدماء لكنهم يسخرون من المتدينين ويخصصون اوقات طويلة للجدال في فرعيات دينية لا تقدم ولا تأخر بقصد إلهائنا والسيطرة على عقولنا حتى يفرقونا فيما بيننا ليسودوا علينا .
افيقوا ايها المصريين فباتحادكم سيتحد مسلمي العالم .