قرابين الأسد البشرية



يُحكى أن ثمة جدارًا في مدينة طرطوس السورية يمتلئ بصور سوريين أموات، وأن ذلك الجدار لا يزال يزدحم كل يوم بصور جديدة، لأولئك المقتولين على جبهات النظام، ليبدأ العزاء وينتهي بصورةٍ ألصِقت على جدار، في واحدة من أكثر المدن تأييدًا لبشار الأسد في سورية.

لا تزال الضحية الأولى، على مدى 6 سنوات في سورية، هي الحقيقة، وإن كان الناشطون والصحافيون السوريون المعارضون تحدثوا كثيرًا عن ضحايا الأسد؛ فإنه على الجانب المقابل تغيب حقيقة القتلى من السوريين الذين يُقاتلون ويٌقتلون، وهم يرتدون البزات العسكرية التابعة للأسد ويحملون سلاحه.

ليس أكثر من جدار وبضعة صور! بلا اعتراف حقيقي بحجم الخسائر وعدد الضحايا الحاملين للجنسية السورية، وخلافًا للإشاعات التي يحاول السذّج منا نشرها عن حقيقة أن معظم أولئك القتلى ينتمون إلى طائفة الأسد؛ فإن الحقيقة التي يتم تغييبها تقول: “إن الطوائف جميعها تدفع، من دم أبنائها، قرابين بشرية ثمنًا لبقاء بشار الأسد على كرسيه”.

لا يصح أن نقول إن كل من يعيش في المناطق التي يسيطر عليها النظام هم مؤيدون له أو شبيحة؛ لأننا -بتسليمنا بمقولة كهذه- نكون بدأنا نُشارك في جريمة تغييب الحقائق، ذلك أننا نعرف أن من يتمّ رميهم اليوم على الجبهات المشتعلة هم الشبان الذين يتم اعتقالهم عند الحواجز، ثم يتم إخضاعهم لدورة لا تتجاوز بضعة أيام، لتسليمهم للموت مباشرة.

تقول الأنباء إن النظام عاد إلى تكثيف حملات الاعتقالات والسوق إلى الخدمة العسكرية، من على حواجز النظام المنتشرة في العاصمة، ولا يبدو ذلك غريبًا مع الخسائر الفادحة التي مُني بها النظام على جبهاته مع (داعش)، في الأيام الأخيرة تحديدًا، ونقرأ هنا وهناك شهادات لمعارضين أو ثائرين ضد الأسد، عن صديقٍ، بقي في مناطق النظام ليعيل أسرته، قُتل على إحدى الجبهات، لأن حظه العاثر قاده إلى الحاجز الذي سحب منه حقوقه الإنسانية، ورماه أمام النار.

حجم الكذبة والحقيقة الضائعة يتعلق بمكانة وجهة الكاذب، والنتائج التي تسفر عنها الكذبة، والأكيد أن النظام لم يبدأ بأكاذيب صغيرة، وإنما اتخذ -منذ البداية- من الكذبات الكبيرة شعارًا له؛ لتتحول تلك الأكاذيب إلى نسيج متكامل من الخداع، يشبه أفلام “الكاوبوي” الأميركية، أبطال وهميون على أحصنة يرفعون أيديهم ويلوحون بها مُعلنين الانتصار اليومي، الانتصار على سوريين آخرين.

وإن كان إعلام المعارضة قد ملّ من متابعة إعلام النظام، وكشف الخداع الذي يحتويه، وإن كان إعلام المعارضة انساق وراء أسلوب النظام، ليصبح بطلًا لأكاذيب من نوع آخر؛ فإن الضحية في الحالتين هي الحقيقة، مع فارق مهم، في الكذب الأول يتم تجاهل الأرواح البشرية، والتعتيم على الأسماء، ومنع تكريم القتيل، فيتحول قتلى النظام من السوريين إلى مجرد أرقام ومقابر بلا شواهد، ودفن بلا فاتحة؛ ما يجعل التعرف على الضحايا وأسمائهم يقترن بنعية لأم مفجوعة، أو بوست فيسبوكي لأبٍ غاضب، سرعان ما يختفي من صفحات التواصل الاجتماعي، ليحل محلّه عبارات “كلنا فداء الأسد”.

على المقلب الآخر، يُحاول السوريون المعارضون، خصوصًا أولئك المُهجّرون والمطرودون من بلدهم أو الساكنون في مناطق تحكمها المعارضة، تثبيتَ أسماء شهدائهم، مرة تحت عبارة “لا تنسوهم”، وأخرى على مبدأ “شهداؤنا في الجنة وشهداءهم في النار”، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الفكرة؛ فإن سوريي المعارضة المقتولين لا يزالون يُعامَلون بكل ما للموت من حرمة، بينما سوريو الأسد المقتولون لا يعدون كونهم قرابين بشرية تموت مجانًا، ويُمحى ذكرهم حتى قبل أن يتم الحديث عنهم.

آلامهم ودماؤهم وعجزهم، طوائفهم ومواقفهم وأفكارهم، وحتى كلماتهم، صارت سوقًا مربحة للأسد، وكلما زاد عمر الحرب يومًا؛ زاد احتراف الأسد برمي القرابين من السوريين المعتقلين على الحواجز للموت، ومن الفقراء اللاهثين للحصول على راتبٍ يطعم أولادهم؛ فإذا بهم يدفعون عمرهم ثمنًا للأسد وللكرسي وللطعام.




المصدر
هنادي الخطيب