الروائي نبيل قديش: (شارلي) تسائلُ أسبابَ اهتراء منظومة الحكم في تونس



بعد مجموعته القصصية (العبث مع نيتشه) التي حازت على الجائزة التقديرية لمسابقة “الكتام آر” للقصة القصيرة التونسية لعام 2014، ورواية (زهرة عباد الشمس) الحائزة على جائزة “الكومار الذهبي” لعام 2015، وهي أرفع الجوائز الأدبية في تونس، صدر مؤخرًا للروائي الشاب نبيل قديش رواية ثانية بعنوان (شارلي)، عن دار “فضاءات للنشر” في عمان. كانت (شارلي) منطلقَ حوارنا معه، كما تطرقنا في حديثنا هذا إلى خصوصية مشروعه الإبداعي السردي، وهو في بدايات مشواره الأدبي؛ فكان الحوار التالي:

– كيف تقدّم لنا روايتك الثانية الموسومة بـ (شارلي)، والتي صدرت مؤخرًا عن دار “فضاءات” بعمان، وفي أي أجواء كتبتها؟

= كتبتُ هذه الرواية في الفترة الممتدة بين سنة 2009 و2014، ومثّلتْ ولادة عسيرة رافقتها آلام كتابة شديدة. لم يفارقني شعورُ عدم الرضا عنها، حتى بعد نشرها، وكنت أرى فيها روايات أخرى، كان يجب أن تكونها ولم تكنها؛ لربما يعود ذلك إلى محاولتي تحميلها كل ما أردت قوله ولم أقله. هي رواية ملتصقة بي جدًا، على الرغم من أنها ليست رواية سيرية، إذ إنها تدور في منطقة جغرافية نشأتُ وترعرعتُ فيها، وهي منطقة الشمال الغربي التونسي المهمش، في حقبة مفصلية في تاريخ التونسيين، وهي السنين التي سبقت انقضاض نظام الرئيس الهارب “زين العابدين بن علي”، على الحكم في تونس في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. هي الفترة نفسها، والجغرافيا نفسها التي خرجت منها لمواجهة العالم. أذكر جيدًا أنه خلال تلك الحقبة، وكنت حينذاك بالكاد بلغت سن العاشرة، بدأ يتشكل فيها عندي نوع من الوعي والاهتمام بما يدور من حولي، ناهيك أنها الفترة التي بدأت عيناي تتفتح على الأدب ككل، تلك الزاوية المختلفة، للنظر إلى الواقع بأعين مختلفة.

– ما الشواغل التي اشتغلتَ عليها في منجزك السردي هذا؟

= فنيًا، حاولت نسج حكايات كثيرة وفق صيغة الحبكة المتناثرة، بحيث أجعل المكان بذاته بطلًا روائيًا، وتراه أكثر قربًا من عالم القصص القصيرة التي تتعاقب، لتؤثث فضاء الرواية بعوالمها التي تدور في دوائر جغرافية وزمانية مشتركة.

مضمونًا، اختارت الرواية أن تُعيدَ إنتاج منظومة الحكم التونسية المُهترئة، ضمن حدود البلدة الصغيرة النائية لكي تُسائلَ أسبابَ ذاك الاهتراء، ولِتُفككَ الذهنية الاجتماعية التي تعتاش منه، وتحافظ عليه وترى فيه قَدَرًا سياسيًا محتومًا، وإذْ تفعل ذلك فهي تفعله دونما حشرٍ منها للأيديولوجيات داخل متنها أو سعيٍ إلى تطهير فئة من الناس على حساب أخرى، فالكل فيها مُدانٌ، والكل يشي بالكل ويُراقبه، والكل مسؤولٌ عن تردي الوضع الاجتماعي الذي بات معطوبًا، وأضحى المكرُ فيه والخيانة وقِلة الحياء أسبابًا ضروريةً للعيش!

الكتابة والهروب إلى الأمام..

– أعود معك إلى روايتك الأولى (زهرة عباد الشمس)، الصادرة عن دار “سؤال” البيروتية، والحاصلة على جائزة “الكومار الذهبي للرواية البكر” في تونس. ما الذي أردت قوله في هذا النص؟

= هي رواية قصيرة في حجمها، لكنها كثيفة الكتابة في السرد والتناصات. رُمت فيها الاقتصاد في اللغة والابتعاد عن الترهل البلاغي. أعترف أنها غريبة نوعًا ما في كتابتها وفي موضوعها. بدأتها بإهداء مقتبس من رواية (الحب في زمن الكوليرا) لـغابرييل غارسيا ماركيز: “قد تقولون هذا مجنون، لكنه ليس بمجنون؛ إذا تقبلتم أسباب جنونه”. هي في الحقيقة غمزة من شأنها تصيّد القارئ وتهيئته وبرمجته لاستقبال نص روائي، قد لا يكون مألوفًا، ولنقل نصًا مغامرًا ومجنونًا.

الرواية في مسعاها تروم إلى تقليب هذه الأرض الروائية، تجترح لنفسها شعرية روائية متقدمة جدًا، ومتقاربة في التركيب الفني المزاوج بين السرد الواقعي والفانتاستيكي والتشويق البوليسي، لكن مع تعميق وتوسيع لتجديد الكتابة وأسئلتها.

بعض من قرؤوا الرواية، من قراء عاديين ونقاد، أسروا لي أن رواية (زهرة عباد الشمس) انطوت على ورشة إبداعية ونقدية، وما يزيد من قيمتها أنها لا تعتمد على المفاهيم والمصطلحات الجاهزة، بل تستثمر تفاصيل الحياة وتزاوج بين الواقع والفانتازيا، لتقدم فضاء تخييليًا متعدد الدلالات وقابلًا لأكثر من قراءة. وأعتقد أن الرواية قد نجحت، من خلال سردها ومستوياتها اللغوية، وحواريتها مع فنون أخرى، وكذا من خلال الوعي الفوقي بالحكاية والكتابة.

– هل سعيت في (زهرة عباد الشمس) وما تشتمل عليه من اشتغالات، لمواجهة الحاضر بتداخلات الأدب والواقع ومعتركاته؟

= بالتأكيد. وأعتقد أن أحد أهم الأسئلة التي تثيرها الرواية يكمن في علاقة الأدب مع الواقع، بجميع تجلياته الفنية والمادية. أشير بطريقة غير مباشرة إلى السؤال الجوهري: هل يبقى الفن ذا قيمة، حين يرضخ لمنطق المادة، وحين ينحني لضغوط الواقع وإغراءاته، ويصبح -بطريقة أو بأخرى- محاكيًا وتابعًا له؟

– لو نستعيد بعض الذكريات من تجربة بناء ذاتك الأدبية، ما هو المنعطف الذي حوّلك من قارئ للأدب إلى كاتب؟

= أنا من جيل لا يتيح للأطفال الكلام سوى في مناسبات محددة ونادرة للغاية، وبعد أن يطلب الطفل الإذن من ولي الأمر، وإن تكلم؛ فلا يقع الاستماع له كما يجب. هذا ما يجعل أحاديث بعض الأطفال صعبة، أحيانًا مترددة، أحيانًا مسرعة، كما لو كنا نخشى المقاطعة. من دون شك، هذه الرغبة هي التي حملتني على الكتابة، مثل الكثيرين في مرحلة مباشرة بعد الطفولة. كنت آمل أن يقرأني البالغون؛ فيكونون بالتالي مجبرين على سماعي بانتباه ودون مقاطعة، وبالتالي سيعلمون مرة واحدة ما بدواخلي. فيما بعد، تطورت رغبة الكتابة عندي، من رغبة في حمل الآخرين على سماعي، إلى فرض صوتي هذه المرة، والصدح عاليًا وبقوة بما أريد قوله وأشعر به وأحسه. وإذا كنتُ شعرت بالرضا على الآخر الذي صار ينتبه إلي ويسمعني؛ فإنني لم أشعر قط بالرضا على نفسي مع كل كتابٍ أنهيه، فأبحث على التوازن المفقود والمستحيل في الكتاب الذي يليه. وهكذا تمر السنون، ويتحدث القراء عن أعمال، لكنني أشعر في قرارة نفسي أن ذلك لن يكون سوى هروب إلى الأمام من ذلك الصوت.. صوتي الخاص بي الذي كان في يوم ما مجرد قزم، فأصبح ماردًا لا أستطيع مقارعته.

التجريب وحرية المبدع..

– من خلال كتاباتك لمجموعة من القصص وروايتين، هل استطعت التعبير عن كل ما تشعر به، بكل حرية؟ وهل تمكنت من اختراق التابوهات (ثلاثي الدين والسياسة والجنس)، والكتابة بعيدًا عن شروط النشر الخاضعة بشكل رئيسي لمزاج الناشر ومتطلباته؟

= تناولت كل ما رغبت فيه، لكن ليس كل ما أردته، وما زال المشوار طويلًا لقول كل ما يختلج في صدري. ليس للرقيب الذاتي ولا رقيب من أي نوع آخر، ولا للتابوهات سلطة على قلمي. أنا أكتب متحررًا من كل رقابة، والشيء الوحيد الذي احترز منه وأحسب له ألف حساب، هو المستوى الإبداعي لكل نص أكتبه. لا أكتب –أيضًا- استجابة لمزاج الناشر وتطلعاته، ولا أكتب لمواسم جني الجوائز.

– إلى أي مدى تخـتلف تقنـيات كتـابة الرواية عن القصة، لا سيّـما أنك كـتبتَ هـذين النوعـين الأدبيين؟

= أنا من معجبي الروائي العالمي (ماركيز) الذي يقول في معرض حديثه عن الفرق بين كتابة القصة والرواية، بما معناه، إن كتابة القصة القصيرة هي عبارة عن صب الإسمنت المسلح، أما عن الرواية فهي تشبه بناء الآجر.

في السياق نفسه، يقول الروائي الياباني (كاواباتا) بصريح العبارة: “في تلك اللحظة يتحتم علي أن أفتح الباب، وهو ثقيل، وضخم -على المرء أن يذهب إلى الغرفة الأخرى- (مجازيًا بالطبع)، وعليه من بعد أن يعود إلى هذه الغرفة، أن يغلق الباب، إذن فالمرء فعلًا بحاجة إلى قوة بدنية ليفتح الباب الموصد. إذا فقدت هذه القوة؛ فلن يكون بوسعي أن أكتب رواية، سيكون بوسعي أن أكتب قصصًا قصيرة، أما الرواية فلا”.

هناك اتفاق في الحالتين على أن كتابة الرواية تتطلب جهدًا أكبر، بينما تتطلب القصة القصيرة براعة أكبر، فهي على حد تعبير (موباسان): إن هناك لحظات عابرة منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة، لأنها عندما تصور حدثًا معينًا لا يهتم الكاتب بما قبله أو بما بعده”.

– كتبتَ القصة إلى جانب الرواية. ألا تفكر بالانفتاح على أجناس أدبية أخرى، وطرق أبواب تعبير مغايرة؟

= كثيرًا ما قرأت النصوص المسرحية وأعجبت بها، معتبرًا إياها جنسًا مهما وصعب الكتابة. قرأت لكثيرين مثل شكسبير وتوفيق الحكيم وجون بول سارتر وموليير وغوتة، وجون برنار شو. وكنت حالما أنهي قراءة مسرحية؛ أتساءل عن سر ذلك السحر والعظمة في الكتابة المسرحية، فكاتب مثل برناردشو مثلًا، تمثل أعماله المسرحية دررًا، ألهمتني أعماله محاولة في الكتابة المسرحية، منذ سن باكرة. لكن شاءت الأقدار أن يبقى ذلك النص في الرفوف إلى حد هذه الساعة. أكتب أيضًا المقال الأدبي، ولي عدد من المقالات المنشورة في أشهر الصحف والمواقع العربية.

– مع ظهور الأجناس الأدبية الجديدة، هل أنت مع التجريب في الأدب؟ وبرأيك ما الحد الفاصل بين التجريب والتخريب الأدبي؟

= يخطئ البعض في اعتبار التجريب مجرد فكرة أو تقنية روائية أو نزوة فنية، في حين أنه تيار فني متكامل لم يمس الأدب فقط، بل نجده في المسرح والموسيقى والسينما وغيرها من الفنون. يقوم التجريب على الخروج على المألوف والمعتاد والمسطر. إنه -على حد تعبير صديقنا الكاتب المصري جمال الغيطاني- “إعادة خلق الواقع”.

أنا مع التجريب، لأنه يدعم بشدة حرية المبدع، ويسنده بالوسائل اللازمة للتعامل مع إبداعه نصًّا كان أو غيره بغاية تطويره. أعتقد أن الفيصل في الحكم بين ما يمكن أن يكون تجريبًا أو تخريبًا هو النص الإبداعي في حد ذاته. في النهاية النص هو سفير نفسه، والحكم عليه يكون مباشرة من القراء والنقاد والمتلقين بصفة عامة.

أدب تونسي جديد

– كيف ترى معايير النقد اليوم؟ وهل أعطى النقد تجربتك الأدبية حقها؟

= الكلام عن الكلام صعب، مثلما يقول التوحيدي؛ ومن هذا المنطلق، يستمد النقد الأدبي أهميته وانتقائيته أيضًا. النقد ليس متاحًا لأي كان، والنقاد الحقيقيون يُعدون على أصابع اليد الواحدة. بالتالي أخذت العملية اتجاها معاكسًا، حيث صرنا نرى الأثر الأدبي باحثًا عن الناقد الألمعي لا العكس. للأسف هؤلاء مشغولون دائمًا، وأغلبهم يشتغل في دوائر ضيقة، وتحت ضغوط محاصصات من نوع ابن البلد والصديق المقرب والجليس، و”احتفي بك ثم غدًا تحتفي بي”، إلا ما قل وندر. المفارقة -بالنسبة إلي- أن جلّ من تناول أعمالي بالنقد هم نقاد عرب. أما في تونس فالصورة مشابهة لحارس المنارة الذي هو أقل المستفيدين من ضوئها.

– حصلت في بلدك على جائزتين: الجائزة التقديرية لمسابقة “الكتام آر” للقصة القصيرة، و”الكومار الذهبي للعمل البكر” عن رواية (زهرة عباد الشمس). سؤالي: ماذا تضيف الجوائز الأدبية إلى الكاتب، وكيف ترى تأثيرها في حركية الرواية المحلية والعربية؟

= لم ننتبه -العربَ- إلى أهمية الجوائز الأدبية، ودورها في تشجيع الكتّاب وتحفيزهم ودفعهم إلى بؤر الضوء والشهرة، سوى بعد حصول الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ على جائزة “نوبل للآداب”. ظهرت بعد ذلك جوائز مرموقة مثل جائزة “الطيب صالح للرواية” و”الشيخ زايد”، و”الشارقة”، و”البوكر العربية”، و”كتارا” مؤخرًا، لكنها ليست بحجم الإبداع العربي الذي يشهد طفرة في الكم والكيف. لو قارنّا عدد الجوائز الأدبية وحجمها في الغرب، بعددها في عالمنا العربي؛ لأصابنا الذهول.

على سبيل المزاح، قال أحد الكتاب الحاضرين، في مؤتمر أدبي في سيدني في أستراليا، إنه كان أحد اثنين فقط لم يتوّجا بجائزة أدبية من بين كل الحاضرين في المؤتمر. مع ذلك أصبحنا نتحدث عن فساد في الجوائز الأدبية بل في أشهرها، وأصبحنا نستمع إلى لغط كبير حول لجان هذه الجوائز ومعاييرها في انتقاء الأعمال، والجهات التي تقف وراءها!

عن نفسي تعرضت إلى مظلمة كبيرة بحرمان روايتي (شارلي) من الجائزة الأولى للرواية في معرض تونس الدولي للكتاب (دورة 2016)، بشهادة كل الملاحظين.

– أين ترى الرواية التونسية اليوم في المشهد العربي، وهل هناك أسماء تستطيع إيجاد مكان لها عربيًا وعالميًا؟

= الرواية التونسية تتخذ لها مكانًا مهمًّا في المشهد الروائي العربي، وما حصول (الطلياني) للروائي شكري المبخوت على جائزة “البوكر العربية” في 2015، ورواية (لافازا) لشفيق طارقي على جائزة “مجلة دبي الثقافية”، ومجموعة الكاتب وليد أحمد الفرشيشي على جائزة من جوائز “الشارقة للإبداع” في 2016، سوى تأكيد على هذه المكانة المهمة. هناك أصوات جديدة وشابة وواثقة، تنحت أسماءها بقوة. هؤلاء يكتبون أدبًا جديدًا ومغايرًا.. أدبًا يرنو إلى العالمية.

– بمَ تَعِد القراء بعد رواية (شارلي)؟

= لا أعدهم بشيء، لأني أكتب لنفسي قبل أن أكتب لهم. الكتابة حالة وجودية خاصة جدًا ومنفلتة وخارجة عن السيطرة. يهمني أن يكون لي قرّاء في كل مكان، لكنني غير مهتم بأن أنال إعجاب أي أحد. كل ما أعِدهم به هو أنني سأكون مختلفًا تمامًا في كل عمل جديد.




المصدر
أوس يعقوب