إلى أختي الصغيرة



صورة على الجدار، وصرة ملابس على مقاسك الطفولي الذي بقي كذلك رغم مرور السنين، وألم ناعم يعاند الزمن، هذا ما بقي منك. من داخل الإطار الذي بهت لونه وتشقق دهانه، تطل نظرتك الجارحة التي كثيرًا ما هربت منها، خشية السقوط في هوة الزمن، وصولًا إلى زمنك المؤلم الذي توقف إلى الأبد. كنت أهرب -أيضًا- من الوقت الذي يتغلب فيه الحزن على أمي، فتخرج صرة ملابسك من الخزانة، وتستعيدك من خلال فلش ملابسك وتأملها وإعادة طيها وتمسيدها، وهي تبكي بصوت غير مسموع.

لم يكن هذا هو العالم الذي تريدين العيش فيه. خطأ ما أوصلك إلى المكان الخطأ. عالم ثقيل فيه مدارس ووظائف ومذاكرات وتقريع على الكسل وعلى الرسوب. عالم من الأعمال المنزلية التي لا تنتهي، وينبغي على البنت أن تساعد فيها من صغرها لأنها بنت، عالم يُعاتَب فيه الطفل إذا بلل فراشه، ويُقال له بقسوة: ألا تخجل أن تبلل فراشك، وقد أصبحت في المدرسة؟ ليس هذا هو العالم الذي كنت تريدين، أعلم ذلك.

لم يخطر لك في هذا العالم الذي أخطأت طريقك إليه، أن يختارك المرض الأسوأ مختَبَرًا لشروره. ظننتِ الألم الأول عابرًا، وواصلت اللعب الذي كنت تنسين نفسك فيه. تركضين وتضجين وتضحكين وتخسرين في لعبة “الطميمة”، لأنه لم يكن باستطاعتك أن تقاومي الضحك، حين يقترب الباحث عنك من المكان الذي تختبئين فيه؛ فيكتشف مكانك. كنت أرى كيف تهاجمك الأسئلة الثقيلة وأنت في غمرة فرحك، فتغتال فرحك وتلجم ضحكك: عن الوظائف وإحضار الماء من النبع والمساعدة في كنس البيت والجلي… ولكنك كنت قادرة على نسيان كل هذا، ما أن تديري وجهك إلى باحة اللعب.

لم يكن الألم عابرًا، فقد راح يتكاثر ويمتد في عظامك الطرية. لم يعد الجري سهلًا عليك. صرت تختارين من اللعب أقله حركة، ثم صرت تفضلين مراقبة الأطفال يلعبون بدلًا من مشاركتهم. لم يكن الأمر عابرًا في هذا العالم الخاطئ، صار المشي وحده مؤلمًا، فخطر لك مرة أن تستعيني بعصا تستندين إليها في المشي. كنت تستندين إليها في مشيك، تدفعك الحاجة ويربكك الخجل. ما أزال أذكر تلك العصا المرتجلة التي حرضت الجنون في رأس أبي، فانتزعها من يدك وكسرها مرارًا بقوته الجبارة، وكأنه يكسر مخاوفه ويقتل قلقه، من الفكرة السوداء التي راحت تتمكن منه مع الوقت. أذكر أنه صرخ في وجهك يومها، وهددك وأمرك أن لا تعرجي في مشيتك، لأن في هذا العالم الخاطئ مَن قال له إنك تمثلين وتكذبين كي تتهربي من “الواجبات”. لكن قلبه كان يقول له شيئًا آخر، ولذلك خرج صراخه كالبكاء وتهديده كالرجاء.

لم يخطر لك أن هناك في هذا العالم ما هو أسوأ من الوظائف المدرسية والمذاكرات والمساعدة في أعمال البيت، تصورتِ أن فسحة اللعب المتاحة يمكن أن تكفي لإعانة قاطن أو قاطنة هذا العالم على تحمل تلك المنغصات. لم تتصوري أن هناك ظلمًا “طبيعيًا”، يصل إلى حد أن تُحرَم طفلة من اللعب، ثم من الحياة.

لماذا علينا أن نثبت جدارتنا بأي شيء حتى نستحق العيش الكريم؟ الآن أدركت، بعد عمر كامل، أن هذا ما كان يملأ ذهنك وهذا ما أردتِ قوله، قبل أن يسكتك هذا العالم الذي لا يشبهك. العالم الذي لم يحرمك الحياة إلا بعد جولات من ألم لا يحتمل، وكأنه يقتصّ منك انتقامًا من ذلك التساؤل الذي لم يتح لك الوقت لصياغته والتفوه به. ليس هذا هو العالم الذي كنت تريدين، أعلم ذلك الآن أكثر.

==============================

* اللوحة للفنان السوري دلدار فلمز




المصدر
راتب شعبو