خواطر أندلسية

6 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
6 minutes

عند التعرّض لتاريخ الوجود المسلم في إسبانيا؛ يصعب الخوض في أسباب النزول على الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط، من دون الوقوع ضحية التصنيف الاستعجالي، أو التقويم العدائي، أو سوى ذلك من أحكام القيمة سهلة التداول افتراضيًا، في أيامنا هذه. ومن الأسلم الابتعادُ عن الاجتهادات -مهما قاربت الحقيقة- التي ترى أنه غزوٌ أو فتحٌ مُبين أو توسّعٌ للسيطرة الجيوسياسية أو -وهذا ما أظنّه الأكثر عقلانية- سعيٌ من قبل القادة العرب الذين “غزوا” شمال إفريقيا، وعرّبوها، ونشروا فيها الإسلام؛ لإيجاد مسرح معاركٍ واسع ومثمر، يمكنه أن يُشغِلَ الأهالي الأصليين من البربر، عن مقارعتهم والثورة عليهم، وهم أصحاب النزعات القتالية المتقدمة.

عندما وصل المسلمون -بجيوشهم من بربر وعرب- إلى (هسبانيا)، كما كانت تسمى (Hispania)؛ قاموا، إلى جانب السيطرة العسكرية، بالتموقع ثقافيًا وإنسانيًا. وكما يقول الباحث البرتغالي (كلاوديو توريس/ Claudio Torres): استطاعوا بسهولة نسبية الاستقرارَ في المجتمع، دونما الحاجة إلى نشرٍ متشددٍ للدين الإسلامي لأن الساكنة، من المسيحيين واليهود، كانت تعاني من اضطهاد سياسي واقتصادي، مورس عليها من قبل الحكّام الفيزيغوت Wisigoths.

وبعيدًا عن دروس التاريخ واجتهاداتها، فللزائر الحالي إلى الأندلس أن يخرج بملاحظات يُعدّ إسقاطها على واقعنا الراهن محمودًا. حيث إن أكثر ما يجذب الانتباه هو أن القادمين الجدد، قد عرّبوا طريقة لفظ أسماء المدن من أصولها المختلفة، من دون تغييرها جذريًا، إلا نادرًا، كالعاصمة التي يُعتبر أول اسم معروف لها عربيًا، وهو (مجريط)، وصارت اليوم مدريد. وعندما استعاد ملوك الكاثوليك السيطرة على الأندلس، مع حمولة دينية عكسية وشديدة التطرف، من المفيد أن نلاحظ، مع جرعة مفاجئة عالية، أنهم لم يقوموا (بكثلكة أو أسبنة) أسماء المدن والبلدات التي أقامها المسلمون، فحتى يومنا هذا لدينا: بنو الغالبون، بنو عرفة، المسجد الصغير، الخرّوب، طريفة (التي تحمل اسم قائد بربري “غازٍ”)، بني الوليد.. إلخ. كما الأنهار: الوادي الكبير، وادي المدينة…

أما في سورية القرن العشرين، فقد قام جهابذة التاريخ واللسانيات والانتماء والمواطنة (وهم عكس كل ذلك بالتأكيد)، بتعريبٍ كامل، قارب الكوميديا السوداء، لأسماء مدن وبلدات، تحمل آلاف السنين من التاريخ، وذلك من السريانية أو الآرامية أو الكردية. ويقوم اليوم بعض القوميين المتشددين من الكرد -كردة فعل ربّما- بمنح أسماء كُردية لمدن لم تحملها مسبقًا في تاريخه،. لمجرد تمكنهم من السيطرة عليها عسكريًا.

يُضاف إلى الأسماء، الإرث الثقافي المحمي نسبيًا، والذي يتشبّث به أهلوه على الرغم من حمولته “الاحتلالية”. فمن المثير أن تتعرّف على أن أعيان قرطبة، بعد سقوطها بيد الكاثوليك، أي بعد إخراج المسلمين واليهود منها، رفضوا بشدة -في القرن الخامس عشر- قرارًا كنسيًا ببناء كاتدرائية ضمن الجامع الكبير القائم أساسًا على أنقاض كنيسة، وساندهم في ذلك الملك هنري الكاثوليكي، معتبرين أن هناك متسعًا من الأراضي لبناء الكنيسة. إلا أن رأس الكنيسة، بجبروته، هدد الجميع بالحرمانية إن رفضوا؛ فتراجعوا خانعين، وبُنيت الكاتدرائية في حرم الجامع المسمى اليوم “الكاتدرائية/ الجامع”.

مجتمعٌ مدني وقف في وجه الكنيسة عشية “التحرير”، عاد واحتج على خطواتها الإقصائية منذ سنوات قليلة، معتبرًا أن هذه الأوابد هي جزء من تاريخ متشابك، وغير ذي هوية منفردة تُقصي سواها. وليس من المستغرب -في ظل هذا المنطق التصالحي مع الماضي- أن ترى تماثيل في الساحات العامة لمدن الأندلس، تُخلّد بفخر واعتزاز رموزًا أندلسية: ابن رشد، ابن عربي، ابن ميمون، وابن زيدون. كما ينتصب تمثال عملاق لعبد الرحمن الداخل في مدينة “المنيكر”، مكان وصوله أرض الأندلس، مع هذه الأبيات من شعره:

أيـــها الراكــــبُ الميـــــــــممُ أرضي أقرِ من بعضي الســــلام لبعضي
إن جسمـي كما علمتَ بأرضٍ وفـــــــــــــؤادي ومـالـكيـــــــــــــــــــــه بــــأرض
قـدّر البيـــــــنُ بينـــنـا، فافترقــــــــنا         وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق عليـــــــــنا         فعسى باجتمـاعـــنا سوف يقضي

السؤال الذي يطرح نفسه، ولا أدّعي امتلاك كل عناصر إجابته، هو ما تفسير محافظة الإسبان الكاثوليك المتعصبين -ومن بعدهم الملكيات القومية المتعاقبة وصولًا إلى جمهورية فرانكو الفاشية وانتهاءً بالديمقراطية الفتية- على أسماء ورموز، يُفترض أنها فُرضت عليهم من قبل “الغازي” المسلم (عربيًا كان أم بربريًا)، بينما فشل ساكنوا المنطقة العربية عمومًا، وسورية خصوصًا، في التعامل مع تاريخهم، وقبوله بتصالح وانفتاح على مجمل مكوناته، بعيدًا عن الهيمنة والانتقام المتبادلان؟

هل يكمن الأمر في ضعف الانتماء البنيوي، والذي يدفع إلى اختراع/ تشويه/ اختزال التاريخ وحمولاته المتنوعة؟ أم أنه يكمن في انحراف ما في “الفلسفة” السياسية/ الثقافية السائدة في أو المهيمنة على العقل المشرقي؟ أم أنه عائد إلى حكومات الاستبداد التي تبحث عن إحلال مشروعيتها المفقودة بالاستعاضة عنها، عبر تعزيز الشوفينية أو تطريفها، بعيدًا عن الانتماء الوطني الصحيح؟ أم إلى فشل ذريع في إدارة التنوع الديني والإثني، يعود أساسًا إلى استبعاد المسار الديمقراطي؟ أم إلى كل هذه الأجوبة مجتمعة وسواها؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

سلام الكواكبي