‘“ذئب الله”’
7 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
[ad_1]
قد تكون العتبة النصية إحدى الشباك الجاذبة لاستدراج القارئ إلى تفاصيل النص، والولوج إلى مكامنه الخبيئة، ومفتاح عبور إلى حيثيات الموضوع، واندماجه في أفكار الأثر الأدبي المتناول، كجسرٍ للانتقال من اللانص إلى النص، وإشارة معرفية للدخول في مضامين العمل الفني المطروح للمتلقي، وإثارة توجهات القراءة لديه، مما يجعل عنوان رواية جهاد أبو حشيش (ذئب الله) الصادرة عن دار “فضاءات” عام 2017، يثير بعدًا إشكاليًا ملتبس الدلالة لدى القارئ، دافعًا إياه إلى المزيد من التوغل في عمق النص لفك هذه الأحجية: (ذئب الله) وهل من ذئاب لله!
ربما كانت هذه التسمية بوابة لإثارة الأسئلة حول ماهية المقدس الذي يخبئ تحت رايته محاولات حثيثة، لتغييب العقل وتجهيل المجتمع، وإشارة إلى ستار الدين الذي يتقنع به طواغيت المال، ومدخلًا لرصد العنف الذكوري القادم من بيئة قبلية، وتفكيك بنية مجتمع عشائري، الغلبة فيه للأقوى والأرفع نسبًا والأعلى شأنًا، مجتمع تستَلب فيه الطفولة والأمومة تحت وطأة مفاهيم عتيقة ما زالت تُقصي المرأة عن إنسانيتها، وتتحكم بمصيرها أعراف وعادات ثقيلة الأطواق. وما زالت مفاعيل الثأر تنخر في بنية هذه التركيبة الاجتماعية، فالأب (عواد) المستهتر والعابث؛ يلقى حتفه في أحد نزاعاته الاستعراضية كلعنة تجوب الفضاء، استلت من روح قتيل عاجل حياته ذات غدر.
تلك الحادثة كانت فاتحة الويلات التي تداعت على أثرها واحدة إثر أخرى، حيث الثأر كان بإذلال العنصر الأضعف في البنية العشائرية ألا وهي المرأة “ذلول” التي تساق مع الإبل زوجة مهيضة الجناح، لتنجب لهم بديلًا عن القتيل دون أي حق بالأمومة، لتنجب عواد الابن الملقب بـ “عواد الباز” الشخصية المحورية بالرواية التي ترضع القسوة منذ المهد، بحرمان التواصل مع أمه الحقيقة، وموتها على يده بالخطأ، حيث ناداها بأمه للمرة الأولى حين مصرعها في مشهديه موجعة وآسرة.
ارتباط الجنس بالسلطة والقوة والعنف كفعل ذكوري كامن في عقلية الاستلاب والهيمنة، ليس بالضرورة أن يصدر من ذكر، حيث السطوة للأقوى في التباس جندري تمارسه بفوقية طاغية (تاليا) ذات الانتماء الإسرائيلي مع الباز، بكل عنجهيته وشبقه الذي يعيشه مع زوجته الثانية، بمتتاليات تراتبية وفق هرمية تكون الأولوية لمن يحتل مقاليد السيطرة على السلطة والمال.
(تاليا) تلك الطفلة التي ربيت بين أقدام زبائن الحانة مرشحة للكثير من الأعمال العابرة للأخلاق والمبادئ والأحاسيس، لا يعنيها سوى الربح والكسب، حيث ليالي الذل والجوع كفيلة بإشعال النار بكل القيم؛ ومن الطبيعي أن تتبوأ مكان (مايكل) أبيها الروحي في التجارة، التجارة بكل شيء، مايكل الذي أحرقت صورته في تجارة الأسلحة للعراقيين احتاجتها المافيا لتكون صورة جديدة وغير ملوثة تسوّق للخراب في أماكن جديدة.
عواد الباز الذي جمعه مع (تاليا) الإحساس بعدم الانتماء إلى شيء، حسب تعبير أبو حشيش “آت من الفراغ وذاهب إليه”، كان الوعاء المواتي لاستقطاب كل الآثام والسفالات التي يذخر بها عالم اليوم، وهو الكائن المفرغ من الامتدادات الحسية لعالم الإنسان الذي يتلذذ بعذابات الآخرين من الانتهاك والسرقة، لتعذيب هرّة ضعيفة، إلى إهاناته المتكررة لزوجته الأولى، وتصعيد شبقه من خلال العنف على زوجته الثانية، في احتدام الجسد عندما تنطلق الشهوة وحدها لتشابه حدث الافتراس، من خلال ارتباط الجنس بالسادية للقلوب المتكلسة التي نأت المشاعر البشرية عن وجدانها، فهو لا تبلغ رغبته مداها إلا إذا أذل وأهان الكائن المرغوب فيه، والمال كفيل بتنظيف آثامه، ليكون بنية خصبة لمشروع تاجر السلاح بلا منازع، بدأ تدريجيًا بالانخراط في صفوف الفدائيين تحدوه الرغبة بالعنف لمجرد العنف، ليصعد في مراتبية المافيات المتغولة لتجارة السلاح والدم، فكان ما أزعجه في خروج المقاتلين من بيروت تعطل هذه التجارة، وتعطل مصالحه تلك المافيا الأخطبوطية التي لا نعدم وسيلة لإعادة اصطفافها وترتيب أوراقها وفق أوليات جديدة، وانتقال البندقية من اليسار إلى اليمين، والمفارقة أن من يمسك خيوط اللعبة هو العدو الأكبر، وتوجيه السلاح بيد من يجندوهم، بوهم للقتال ضده باستثمار خديعة الدين، كمنظومة غيبية تعتمد النص الماضوي والاتكاء القطيعي على المقدس، تسحب المغرر بهم إلى أتونها الحارقة، وتغير اتجاه البوصلة باستثمارها كأيديولوجية للخراب والموت، منذ أن تسلم مفاتيحها فقهاء العتمة.
ومع ذلك، من يطبخ السم له نصيب فيه، فإصابة الابن “ابن عواد” بالتفجير الذي تاجر أباه بمواده أفقدته ذكورته، وهذا معنى على مستويين: الأول على صعيد دراما السرد للقصة المحكية، وهي فقدان عواد لامتداد عائلته بانقطاع نسله، والخط الثاني على صعيد المعنى الرمزي الذي يلتمس نورًا لا يكاد يبين، بأن عهود الظلام ليس لها استمرارية، لأن فناءها من وجودها ذاتها.
الواضح في أسلوب أبو حشيش اعتماده على تعدد الأصوات السردية، أو ما سمي بـ “البولوفينية”، بحيث تروى الأحداث ذاتها من وجهة نظر راويها، تتحدث كل شخصية عن همومها وأشجانها وصراعاتها والقضايا المفصلية التي تنسجم مع درجة وعيها وفهمها لما يجري حولها، وفق تنامٍ متصاعد للشخصية تمنح القارئ رؤية موضوعية للحدس السردي، من خلال فهم الفكرة ذاتها، وفق آراء متنوعة بتنوع أصوات قائليها، كما يظهر كسر التسلسل الزمني للأحداث كصورة لتشظي الزمان السردي الذي تحكمه رغبة الشخصية بتناول وجعها الأساسي في مرويتها.
رواية (ذئب الله) -بما فيها من هتك وفضح الخبايا والزوايا المتعفنة وإضاءة على عتمة بيئة لما تزل تنز سخامًا أسود لواقع يزداد انحدارًا، ولأمل ما فتئ يخبو- تعيد صياغة المفاهيم المحرفة وترسم ملامح لرؤية تفتح أفقًا رحبًا للنور والتنوير.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]دعد ديب