في بلاد اللجوء.. أولويّات ومصالح تُحوّل الزواج إلى “صفقة”




في صباح كلِّ يوم، يستيقظ صالح ويتّجه إلى عمله، وفي المساء يحاول الشاب البالغ من العمر 29 عاماً إشغال وقته في النوادي الرياضية.
قبل سنوات خرجَ صالح مع نحو 5 مليون سوري من بلاده بحثاً عن الأمن والاستقرار، لكنه اليوم أبعد ما يكون عن فكرة الزواج خلال السنوات القادمة على أقل تقدير، حتّى “يتم إعادة هيكلة المجتمع السوري بين داخل البلاد وخارجها” وفق قوله.
العزوف عن فكرة الزواج بالنسبة للسوري المُقيم في ولاية “بريمن” الألمانية جاء بعد ارتباط فاشل، إذ حاول الشاب التقدّم لخطبة فتاة تعيش في محافظة اللاذقية، بموجب خطبة تقليدية عن طريق الأهل، والتقى طرفا العلاقة عبر الإنترنت ليتم ترتيب بقيّة الأمور، حيث كان يحاول استقدامها لتعيش معه في ألمانيا بعد أن أنهى دراسة اللغة وحصل على عملٍ تحرّر بموجبه من مساعدات “جوب سنتر” التي يتم تقديمها لجميع اللاجئين في ألمانيا.
بشكلٍ عفوي اتفق صالح مع خطيبته للقدوم إلى مدينة بيروت اللبنانية، ليقضيا أيام الزواج الأولى هناك ثم يعودا إلى ألمانيا بعد تجهيز أوراق لم الشمل، ولكن الفتاة رفضت بشكلٍ قاطع وكانت مُصرّة على أن يكون اللقاء الأول في ألمانيا، ما جعل صالح يلحّ لمعرفة السبب حتّى اكتشف في نهاية المطاف أنّها كانت تحاول الوصول إلى ألمانيا والانفصال عنه دون أن يتم بينهما أي زواج، ما دفعه للتراجع عن الفكرة وإنهاء معاملة لم الشمل فوراً.
لكن وعلى غرار حالة صالح، التي يبدو أن الشاب تمكّن من تجاوزها، ثمّة حالات أخرى لـ “صفقات” زواج نجح أحد طرفيها بالوصول إلى “مبتغاه” منها.

تركها وعاد وحدَه

معلومٌ أن السوريين تبعثروا في دول العالم، وتركّزوا بشكل أساسي في ستة دول وهي “سوريا، لبنان، الأردن، تركيا، ألمانيا، السويد وفرنسا” فضلاً عن وجود أعداد أقل منهم في دولٍ أخرى، ولكن هذا التوزّع لم يكن منظّماً بسبب تركّز الإناث في داخل سوريا، في مقابل وجود الذكور خارج البلاد ولا سيما ألمانيا وتركيا.
هذا الواقع دفع الشباب إلى الزواج من فتيات لا يزلن مقيماتٍ داخل سوريا، وليس خافياً أن هذه المعادلة تبحث عنها فتيات كثيرات مع سعيهنَّ للخروج من “الجحيم السوري” حسب نظرتهن، غير أن هذه المُعادلة حوّلت عملية الزواج في كثيرٍ من الأحيان إلى “بزنس” يقف وراءها نية استغلال ومصلحة ضيّقة.
عن هذا السياق لا تخرج حالة أحد الشباب السوريين الذي قام بـ “حيلة” أعاد فيها زوجته إلى السودان وألغى لجوءها في ألمانيا، والتي تناقلتها صفحات إخبارية على نطاقٍ واسع.
وفي تفاصيل القصة قام شابّ سوري في ألمانيا بخطبة فتاة وعمل لم شملٍ لها، ولكن بعد وصولها تذمّرت من عدم حصولها على كامل حقوقها مثل المرأة الألمانية، ما دفع الشاب للرضوخ لشروطها وأخذها إلى ماليزيا لقضاء شهر عسل، ولكنه كان في حقيقة الأمر قد ألغى لجوءها وأعادها إلى السودان ليعود وحيداً إلى ألمانيا.
هذا النموذج يُظهر حجم الخلل في تجارب الزواج هذه من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن فرق الثقافات والحقوق شكّلت عائقاً كبيراً أمام قدرة الأزواج السوريين حديثاً على التأقلم مع بعضهما بعضًا.
واختلفت ردود فعل السوريين على تلك الحادثة، بين معارضٍ لتصرّفه بحجّة أنه من الطبيعي أن تطالب الزوجة بجميع حقوقها في هذه البلاد طالما أنها تعيش فيها، وبين مؤيّدٍ لتصرّفه بداعي أن الشاب أخرجها من سوريا وتكلّف كثيراً لتكون أكثر ليناً معه في الحياة، وتراعي العادات والتقاليد المعمول بها في سوريا، والتي تختلف بشكلٍ جذري عن تلك المعروفة في ألمانيا.

بحثاً عن كلفة أقلّ

انتهت محاولة “ياسر” لخطبة فتاة سوريّة مغتربة تعيش في البلد ذاته بالفشل، بسبب عدم قدرته على تأمين المبلغ المطلوب والشروط القاسية التي وضعها ذوي الفتاة.
ياسر وصل إلى ألمانيا في صيف 2015، ويقول إنّه تعرّف على الفتاة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي وطلب يدها للزواج، غير أنّ والدها كان حازماً منذ زيارة الشاب إلى منزلهم في برلين، وطلب منه تقديم 10 آلاف يورو مقبوضة و15 ألف غير مقبوضة إضافةً إلى 100 غرام من الذهب وملابس وإقامة حفل ضخم.
كل ذلك جعل الشاب يتراجع عن الفكرة لأنّه لا يزال يعيش على المساعدات حاله كحال عائلة الفتاة التي اتجه ليطلب ابنتها.
يقول ياسر إن والد الفتاة كان قاسياً، وبرّرَ طلباته تلك بأنّ الفتاة حصلت على تأشيرة نظامية إلى ألمانيا ولكن العريس جاء عن طريق البحر، ولأنَّ “اللجوء مقامات” لم يتفق الطرفان.
ولأن ياسر يأسَ من “المهور فاحشة الغلاء” حسب قوله، كما يأس من القيام بلم شمل بسبب عدم القدرة على معرفة الفتاة التي سوف يعيش معها من خلال الانترنت جيداً، فقد قرّر أن يكسر القاعدة وأن يبحث عن شريكة حياة غير سوريّة.
يتحدّث ياسر عمّا يملكه من معلومات حصل عليها من احتكاكه مع الألمان ومع القادمين من شرق أوروبا الذين يقيمون في ألمانيا قائلاً: “إنهم يعرفون مبدأ المحاصصة في الحياة ولا يهتمون بأي جانب مادي، فيكفي وجود الاتفاق بين الطرفين حتى يتم الزواج ثم يتعاون الزوجان في بناء حياتهما ومستقبلهما سويةً”.
ولا ينكر الشاب البالغ من العمر 31 عاماً انه بدأ البحث بشكلٍ جدّي عن شريكة حياة من جنسيةٍ أخرى بحيث لا يدفع تكلفة باهظة لقاء الزواج منها، ويضيف: “أعرف كثيرًا من السوريين الذين تزوّجوا من فتيات من ألبانيا وصربيا وأوكرانيا وحتّى من ألمانيا، ولاحظت أن حياتهم سعيدة، فما المشكلة بذلك بما أنّنا غير قادرين على الزواج من فتيات بلدنا؟”.

الظروف هي السّبب

تختلف ظروف الفتيات السوريات ومعها رغباتهنّ، كما تتفاوت أولويات كل فتاة حسب المنطقة الجغرافية التي تعيش فيها، فالفتاة التي تعيش داخل سوريا تختلف أولوياتها بشكل كبير عن تلك التي غادرت سوريا ولا سيما من وصلت إلى الدول الأوربية.
التقت “صدى الشام” فتاة تعيش في سوريا، وأخرى تعيش في العاصمة الفرنسية باريس، وظهر جلياً في حديث كلٍّ منهما الفروقات الكبيرة في الأولويات والاختيار فيما يخص الزواج.
بدأت “كندة أحمد” الشابة التي تعيش في العاصمة دمشق وخريجة كلية “الفنون الجميلة” حديثها بالقول: “إن نظرة الفتاة السورية التي تعيش في دمشق للحياة تختلف عن نظرة تلك التي استقرّت في إحدى المدن الأوروبية”.
وتشرح كندة، أن أية فتاة بعد أن تتجاوز سنَّ العشرين، فإن نظرها يتجه نحو إجراء تغيير جذري في حياتها، وهذا يحدث إما عبر تحقيق إنجازات مهمة على صعيد العمل، أو إنشاء علاقة زواج ناجحة، وفي سوريا فإن الاحتمال الأول شبه مستحيل، لأن ظروف “الأزمة” أعدمت جميع الفرص التي يمكن تحقيقها، إضافةً إلى وجود قوانين وأعراف اجتماعية تقيّد المرأة وتمنعها من تحقيق ذلك الإنجاز التي تحلم به، ليبقى الخيار الثاني وهو ما أصبح صعباً، في ظل قلّة عدد الشباب وتراجع كثير من الموجودين عن فكرة الزواج بسبب التكاليف الباهظة وانخفاض الدخل، لذلك فإن أي فرصة زواج عن طريق لم الشمل إلى دولة أوروبية تمثل فرصة لتحقيق المراد.
ولا تتردّد الفتاة بوصف ذلك بـ “زواج مصلحة والبزنس لكلا الطرفين” قائلةً: “الفتاة تريد الخروج من سوريا والحصول على إقامة في دولة أوروبية، والشاب يريد فتاة سورية ليتزوّجها ويعيش معها لذلك فإن الأمر أصبح بزنس بشكلٍ واضح”، لكنها تشدّد على هذه العلاقة يجب ألّا تكون وسيلة خداع عبر إيهام الشاب بالزواج فيما يكون الهدف هو الوصول إلى أوروبا.
وبالمقابل، توضّح “عبير س” وهي شابّة سورية وصلت إلى فرنسا في عام 2013، أن الأمر يختلف جذرياً بالنسبة لها، وتقول: “لو كنتُ في سوريا الآن كان من الممكن أن أحاول أن أجد زوجاً مناسباً يعيش في فرنسا لاستقدامي، ولكن أنا هنا لديَّ فرص كثيرة للحياة أهم من الزواج، ويأتي على رأسها أني أدرس الآن وأتحضّر لاستلام وظيفة مهمّة”.

التحوّل إلى سلعة

مع أن حياة الشباب السوري الاجتماعية في الدول الأوروبية أتاحت له فرصاً وخيارات واسعة، لكنها في الوقت ذاته فتحت المجال أمام “بزنس الزواج”، وإنْ بظروفٍ وأشكال مختلفة عن تلك الحالات الناتجة عن “لم الشمل” وما قد يحمله من ابتزاز وخداع.
فبمجرّد الحديث عن زواج السوريين في أوروبا، يصبح النقاش مفتوحاً على احتمالات الخلاف الناتجة عن العامل المادي والكلفة الباهظة التي يضعها ذوو الفتيات مقابل تزويجهنَّ، هذه الطلبات يصفها لاجئون سوريون في أوروبا بأنّها “تحويل للفتيات إلى سلع تجارية” عبر استغلال قلّة عدد السوريات في أوروبا، ما يجعل من وجود تلك الفتاة في عمر الزواج “عملة نادرة” يمكن رفع سعرها إلى حدودٍ قصوى بداعي أن هناك الكثير من اللاجئين الذكور الراغبين في الزواج منها.
ويظهر هذا الأمر من خلال النقاشات التي تجري حول المهور عبر الصفحات الخاصة باللاجئين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يشتكي هؤلاء “بالجملة” من أنّهم التقوا بالفتاة المناسبة ولكن لم يتم الاتفاق على المهر الباهظ.
ويوضح عيسى، وهو سوري مقيم في ولاية هامبورغ الألمانية منذ أربع سنوات، أن الاستغلال يحدث كون هذا الشاب إمّا لا يزال يعيش على المساعدات الاجتماعية التي تقدّمها سلطات اللجوء له، أو أنّه تخلّص من هذه المساعدات ودخل سوق العمل من جديد ويحاول تكوين نفسه، “وفي كلا الحالتين فإن وضع الشاب ليس مستقرّاً بما فيه الكفاية ليتمكّن من توسيع خياراته بالزواج من الفتيات الأجنبيات سواء الألمانيات أو غيرهنَّ من الجنسيات”.
ويسعى الشاب للارتباط بفتاة سوريّة لعدّة أسباب أبرزها التقارب الثقافي والمجتمعي خصوصاً أن “كليهما لاجئان يحاولان تكوين نفسيهما”، ويشير عيسى إلى أن هذه النقطة يجري استغلالها بشكلٍ مدروس، انطلاقاً من فكرة أن “هذا الشاب مضطر للزواج بتلك الفتاة حتّى لو رفعت مهرها”.

حالة مؤقتة

“هذه الحالة التي يعيشها الشباب السوري في أوروبا غير صحّية إطلاقاً، وتؤدّي إلى مزيد من التشرذم في المجتمع السوري”، تحاول المختصة النفسية والاجتماعية ميسون القاضي مقاربة هذا الواقع الاجتماعي المستجدّ، معتبرةً في حديثها لـ “صدى الشام” أن ظاهرة تحويل الزواج إلى “بزنس” بين السوريين والسوريات استناداً إلى المصالح الشخصية يُعتبر “حالة مؤقّتة” وسوف تنتهي قريباً.
وتوضح المختصة أن نهاية هذه الظاهرة ترتبط باستقرار المجتمعات السورية أكثر، سواء بالنسبة لمن “بقي داخل سوريا، أو من هاجر خارجها ليبني نفسه ويحصل على دخل ووثائق نظامية وربّما حق المواطنة في هذه الدول، وحينها لن يعود الشاب أو الفتاة السورية مضطرين للارتباط ببعضهما بعضًا، لأنهما سيكونان قد انخرطا بشكلٍ كامل في هذه المجتمعات وانصهرا داخلها”.
وبما أن حالة اللجوء وعدم الاستقرار ضمن مجتمعات محددة لا تزال قائمة حتّى اليوم فإن دور المصالح الشخصية في الزواج على حساب نوعية العلاقة سيبقى مستمرّاً.
وتختم المختصة بأن “أكثر فئة تضرّرت من هذا الواقع هي التي تحاول الزواج في خضم أزمة اللجوء”، مؤكّدة أن الجيل القادم بعد خمس سنوات لن يعاني من هذه المشكلة لأنه “سيكون بإمكانه الارتباط من المجتمعات التي انخرط فيها”.




المصدر