هل يحجب غربال “المَعارِض” شمسَ “الوقائع الاقتصادية” العنيدة؟



“سوريا بخير”! شعار أطلقه “نظام” الأسد، منذ بدأ بتدميرها ردًا على ثورة الحرية والكرامة. وهذا دأبه لخلق عالَم مُتوهَم منفصل عن العالم الواقعي، مستخدمًا “الديماغوجيا الإعلامية” وحملات “العلاقات العامة” و”الحركات الاستعراضية”، لتجاهل “الوقائع العنيدة”. على هذا المنوال أُقيم معرض دمشق الدولي في دورته التاسعة والخمسين، خلال الفترة 17 – 26 آب/ أغسطس 2017، بعد أن توقف ست سنوات. وها هو يعتزم إقامة معارض خارجية في كل من بيروت وبغداد والخرطوم ومسقط وطهران وبنغازي، خلال الأشهر القادمة: تشرين الثاني وكانون الأول من عام 2017، وكانون الثاني من عام 2018. والهدف من هذه المعارض، حسب تصريحات صحافية لرئيس اتحاد المصدّرين السوريين محمد السواح، في 9 أيلول/ سبتمبر 2017: “بيع المنتجات السورية في الخارج، وإعادة البضائع السورية للمستهلك المستهدف في تلك البلدان، وتأكيد أن المعامل السورية عادت إلى العمل بشكل طبيعي”. هكذا تُستكمَل “انتصارات”! الأسد السياسية والعسكرية بالانتصار الاقتصادي. ويأتي ادعاء عودة المعامل بشكل خاص، والصناعة السورية بشكل عام، إلى العمل بشكل “طبيعي”، ضمن حملة أوسع تروّج للتعافي الاقتصادي.

يأتي هذا “الطبيعي”! فجأة، بعد أن تجاوزت أضرار وخسائر القطاع الصناعي العام والخاص ترليوني ليرة سورية، حسب ما كشفه وزير صناعة الأسد في 14 آب/ أغسطس 2017.

أشار الوزير إلى أن “خسارة القطاع العام بلغت ترليون ليرة ومثله للخاص، أي أن إجمالي الأضرار والخسائر تجاوزت تريليوني ليرة”، كما أوردته جريدة “الوطن” الموالية للنظام.

وكانت تقديرات اتحاد غرف الصناعة في العام الماضي قد أشارت إلى أن أكثر من 80 بالمئة من المنشآت الصناعية متوقفة عن العمل. وإذا أخذنا تقديرات بعض الصناعيين بأن نحو 20 بالمئة من المنشآت المتوقفة قد أُعيد تأهيله، يتبقى نحو 60 بالمئة من المنشآت ما تزال متوقفة عن العمل. كما أن معظم المنشآت الصناعية المُشغَّلة تعمل بطاقتها الإنتاجية الدنيا. كذلك تغيّر التوزع الجغرافي للمنشآت الصناعية بعدما تم نقل أغلب منشآت حلب وحمص، إلى مدينتي اللاذقية وطرطوس.

الزراعة ليست أحسن حالًا من الصناعة، فقد بيّن التقرير الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، في مطلع شهر نيسان/ أبريل 2017، أن “الصراع في سورية تسبّب في خسارة أكثر من 16 مليار دولار من إنتاج المحاصيل الزراعية والماشية، وتدمير الأصول الزراعية، فضلًا عن المعاناة الإنسانية الشديدة”. وأكد التقرير المعنون بـ (حساب التكلفة: قطاع الزراعة في سورية بعد 6 أعوام من الأزمة)، أن “الحرب في سورية ألحقت أضرارًا وخسائر فادحة بالإنتاج الزراعي”. وفي تفاصيل الأضرار والخسائر، “تُقدّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالأصول، من جرارات ومعدات، ومزارع تجارية، وعيادات بيطرية، ومأوى الحيوانات والبيوت البلاستيكية، وأنظمة الري، ومرافق المعالجة بأكثر من 3 مليار دولار أميركي، مع توقعات بارتفاع كبير لهذا الرقم، عند تقدير الحجم النهائي والواقعي للأضرار في المناطق الرئيسة للنزاع، وتُقدّر الخسائر والأضرار اللاحقة بإنتاج المحاصيل بنحو 6.3 مليار دولار أميركي من إجمالي الخسائر، أما في قطاع الماشية، فقد قُدّرت الخسائر بنحو 5.5 مليار دولار أميركي، ونحو 80 مليون دولار أميركي في قطاع مصايد الأسماك”. كما تشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة، إلى تراجع الإنتاج بنحو 60 بالمئة مما كان عليه عام 2010. وتراجع الثروة الحيوانية بنسبة 40 بالمئة خلال 6 سنوات. فقد تراجعت الثروة من الغنم في سورية، من 22 مليون رأس عام 2011، إلى نحو 12 مليونًا مطلع العام 2017، وتعدت خسائر قطاع الثروة الحيوانية في دمشق وريفها 20 مليار ليرة، بحسب مديرية زراعة دمشق. وبشكل عام أوضح تقرير البنك الدولي في نيسان/ أبريل 2017, تحت عنوان (خسائر الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سورية) أن “الخسارة في إجمالي الناتج المحلي تُقدّر بما قيمته 226 مليار دولار، أي أربعة أضعاف إجمالي ناتج عام 2010”.

وبعيدًا عن الادعاءات الجوفاء بتعافي الاقتصاد، وعودة المعامل للعمل بشكل “طبيعي”، لا بد من التساؤل عن النتائج المرجوة من إقامة تلك المعارض. فإذا كانت المعارض تهدف إلى زيادة الصادرات؛ فما إمكانية تحقيق هذا الهدف؟ فبالنسبة إلى الصادرات الصناعية يجب التوقف عند التدني الكبير للقدرة التنافسية للمنتجات الصناعية السورية. فمن جهة أولى، ارتفعت تكاليف المُنتَج الصناعي السوري ارتفاعًا كبيرًا، بسبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية والكهرباء والأجور وارتفاع أسعار المواد الأولية المستوردة؛ الأمر الذي يجعله غير قادر على المنافسة في الأسواق الخارجية. ومن جهة ثانية، من الصعب أن يستوفي هذا المنتج شروط “الجودة” الكفيلة بجعله مُنافسًا؛ وافتقاد شرط الجودة سيؤدي إلى الإساءة لسمعة الصناعة السورية، إذ إن تصدير منتجات صناعية رديئة سيُذكّر بما حدث بعد اتفاقية المدفوعات مع الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الفائت، حين قبلت موسكو بتسديد ديونها سلعًا سورية؛ وجاءت الفضيحة مدوية حول جودة المنتجات السورية. كما أن التصدير سيؤثر سلبًا على سد حاجات السوق الداخلية من السلع، في وقت تعاني هذه السوق من نقص في “العرض”، يسبب ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار يرهق كاهل المستهلك السوري، ويُخشى من إمكانية التلاعب بشهادات المنشأ باستيراد سلع من الخارج وتصديرها بوصفها منتجات سورية، بعد أن تتحمل “حكومة” الأسد تكاليف النقل، وتقديم دعم للصادرات. وجدير بالذكر أنه في السنة الماضية، شكّلت الهيئة الروسية للرقابة على المنتجات الزراعية فريقًا من الخبراء للتوجه إلى سورية، من أجل التحقق من صحة شهادات منشأ الصادرات السورية إلى روسيا.

أما بالنسبة إلى السعي لتصدير المنتجات الزراعية؛ فسيؤدي إلى نتائج سلبية تفوق سلبيات تصدير المنتجات الصناعية. فعلى سبيل المثال، أدى قرار وزارة الاقتصاد بتصدير 150 ألف رأس من الأغنام إلى دول الخليج خلال عيد الأضحى، إضافة إلى عمليات التهريب باتجاه  الدول المجاورة، إلى الإسهام بتدهور الثروة الحيوانية وارتفاع الأسعار، إذ وصل سعر رأس الغنم إلى نحو 75 ألف ليرة، والبقر إلى نحو 500 ألف ليرة. وتمتلك الزراعة، وخاصة في الظروف الراهنة، حساسية فائقة لما تمثله من تأثير مباشر على حياة قاعدة اجتماعية عريضة من السوريين.

بالعودة إلى تقرير “الفاو” الآنف ذكره، يتبين أنه “منذ عام 2011، شهدت نسبة ملكية الأسر للماشية انخفاضًا كبيرًا بمقدار 57  في المئة للأبقار، و52  في المئة للخراف، 48 في المئة للماعز، و47 في المئة للدواجن، وانخفضت نسبة السكان الذين كانوا يعيشون في المناطق الريفية في 2011 إلى النصف بحلول عام 2016”. كما أن نسبة كبيرة من السوريين يعتمدون اعتمادًا رئيسًا على الزراعة. فما “يزال 57 في المئة من الأسر في المناطق الريفية يزرعون الغذاء لاستهلاكهم الخاص، وإن كان ذلك على نطاق أضيق”. إلا أن هناك كثيرًا من المعوقات التي تعترضهم، فنحو 60 في المئة من الأسر تفتقر إلى الأسمدة، وهو أحد المعوقات الرئيسة لإنتاج محاصيل أساسية، كالقمح والشعير والبقوليات والبقول، ومن المعوقات المهمة الأخرى عدم توفر الوقود، وتفشي الآفات الزراعية والأمراض، وتدمير أنظمة الري ومواقع شرب المياه للماشية”. لذلك: “يجب دفع قطاع الزراعة إلى الأمام الآن، ليساهم مساهمة كبيرة في تقليل الحاجة إلى تلقّي المساعدات الإنسانية، وتخفيض نسبة الهجرة”. يقول جوزيه غرازيانو دا سيلفا، المدير العام للفاو: “تظهر الدراسة أن تقدّمَ الزراعة، وسط النزاع، يُعدّ حبل نجاة لملايين السوريين، بمن فيهم المهجرون داخليًا، وأولئك الذين ما يزالون يعيشون حتى الآن في المناطق الريفية”.

بالطبع، ليس من المنطق ولا من المعقول أن يُنتظَر من “نظام” مجرم كهذا، فاق إجرامه كل توقع أو خيال، أن يكف عن استعراضاته وادعاءاته بالانتصارات الوهمية. وأن يُقلع عن وهم “التعافي الاقتصادي”. إن استحالة التعافي الاقتصادي استحالةٌ سياسية بوجود هذا “النظام”، وإن التعافي الاقتصادي يحتاج إلى حلّ سياسي يفضي إلى السلم والعدالة والاستقرار، والمدخل إلى ذلك هو سقوط “نظام” الأسد؛ لفتح الطريق أمام إمكانية بناء دولة سوريّة ديمقراطية علمانية حديثة، يُمكن في ظلها التفكير في استغلال “الفرص الضائعة”. فبحسب “برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية” الذي يشرف عليه خبراء سوريون ودوليون، تحت مظلة “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (إسكوا)، بلغت تكلفة الحرب السورية 327.5 مليار دولار أميركي، بينها 227 مليارًا بسبب الفرص الضائعة، و100 مليار قيمة الدمار.




المصدر
محمد محمد