إدلب.. التدخل التركي في مرآة التوافق الدولي



يثير وجود عناصر من القوات التركية، على تخوم مدينة إدلب في الشمال السوري، جدلًا وتناقضًا، حول ما يسميه البعض “التوافق” على خفض التصعيد المقرر بمفاوضات أستانا، وما يعدّه البعض الآخر “نقمة” التوافق، في صيغته الجديدة التي تبدو ملامح تناقضها، في الاتفاق التركي الروسي عسكريًا على قيادة العملية، إذ يتولى الجانب التركي تغطيتها برًا، ويقوم سلاح الجو الروسي بتأمينها جوًا، عبر ضربات جوية لمعاقل “الإرهاب”.

ما كان لهذا الجدل أن يضير أحدًا، لو أنه بقي في إطار المناقشة، أو أنه اقتصر على “الحوار” السياسي الذي رعته موسكو وطهران وتركيا، للخروج بصيغة خفض التصعيد والتوتر للمناطق المتفق عليها، والتي ضمت مدينة إدلب مؤخرًا في نسخة أستانا السادس، إلا أن تجاوز ذلك عن طريق “لي الذراع”، بالاتفاق مع قاتلي الشعب السوري من الروس والإيرانيين، ينزع عن الحقائق والرؤى الموضوعية البراءةَ التي يحاول الطرف التركي تقديمها في خطابه -إذا جاز التعبير- عن مسار البحث والمقصد الخاصين بتوافق الأطراف الثلاث، كرعاة لخفض التصعيد والتوتر.

الوفاق الثلاثي الروسي التركي الإيراني لا يخرج عن زوبعة الأهواء السياسية ذاتية المصالح لدول إقليمية أخرى فاعلة في ملف القضية السورية، وأدى إلى حالة من التشويش السياسي لبعض القوى والفصائل السورية المعارضة التي ترزح تحت ضغوط، لا تقل وطأتها تأثيرًا عن الضربات العسكرية التي تتلقاها على الأرض، ولم يعد مبدأ التحاور في صيغه العديدة جاريًا من أجل هدف بَنّاء، أساسه حماية الشعب السوري واحترام تطلعاته، بقدر ما أصبح توظيف السلاح غير النظيف والمعارك المفتعلة، ضمن نطاق “نفوذ” الأطراف الراعية ابتذالا سياسيًا.

فحين يتم الاتفاق -روسيًا وسعوديًا- على ضرورة الحل السياسي، مع تعهد تركي بحماية 3 مليون سوري في إدلب، لا يتم السؤال عن مصير باقي الملايين من الضحايا والنازحين، إلا في إطار الرؤية التي تم الاتفاق عليها، في استمرار قاتلِ السوريين في مهماته التي يسانده تخاذل الوفاق الدولي في إكمال المهمة، فقد فسر البعض ما أصبح يعرف بـ “مناطق خفض التصعيد” على أنها اقتسام ضمن تنازلات متبادلة، بين معسكر الادعاء بدعم الثورة والشعب السوري، وبين معسكر حلف النظام السوري.

إذا ما انتقلنا إلى خصوصية التدخل في الشمال السوري، بعد جمع طيف واسع من المعارضة السورية المسلحة أو السياسية، مع فصائل مصنفة “إرهابية” للتمركز في المدينة؛ وجدنا أن سوق خفض التصعيد طفح بجرائم تمّ تعليبها في الشعار المساق بذرائع في مناطق أخرى، يتم ذبحها بصمتٍ في الرقة ودير الزور والبوكمال، وقد صبّت جميع هذه الذرائع في مجرى واحد مؤداه قرب “انتصار النظام” وسيطرته على المناطق كلها، وهو الخاضع والراكع في هيكل “الاتفاق والوفاق” الدولي.

نُذر التضحية بالحقوق السورية، على مذبح الانتهاز الدولي والإقليمي، تقرّبنا من تتبع جملة حقائق ماثلة وصارخة في آن واحد، في التوافق على تحجيم المعارضة السورية، والاتفاق على أن كلّ معارضة للنظام -أيًا يكن رداؤها- هي إرهابية. تراجَع دعم وإسناد المعارضة من دول ومحاور شكل خطابها ترجمة فعلية لحالة التردي التي تمر بها الثورة السورية؛ فتم قضم وتجريد المعارضة من كل المناطق التي نجحت في السيطرة عليها، وتم توظيف عنصر “الإرهاب” بشكل فعال، في حلب وحمص وحماة وصولًا اليوم إلى إدلب. ثبت لاحقًا أن الأجندة التي طرحتها فصائل الغدر الإسلامي في الثورة، كان المقصود من ورائها المشاركة في عملية قضم انتصارات الشعب السوري وإجهاضها.

الشاهد الأكبر، قبل التوغل التركي والإيراني والروسي والأميركي، وقبل هيمنة القوى “الداعمة” للثورة على قرار المعارضة، أنّ النظام كان قاب قوسين من السقوط. فكيف يَفهم السوري تماسك حلف النظام بإسناده ودعمه؟ من مواقف ادعت أنها داعمة لحقوق الشعب السوري، نراها منقلبة ومتحالفة مع جزاريه، وهذا يعني أنّ كل الرسائل التي ترشح من مرآة التوافق الدولي على عملية عسكرية من الرقة شرقًا الى إدلب غربًا، لا تخرج عن الهدف المرجو بعيدًا عن أي مصلحةٍ، تتعلق بقضية الشعب السوري وثورته.

إن إزالة الظلال التي تلف بعض جوانب مدلولات العملية العسكرية في إدلب أو غيرها، تكشف الاتجار بتفسيرات التوافق الدولي وتلبيسه أثوابًا تناسب أهواء الهدف السياسي الذي يخدم الطاغية في دمشق.




المصدر
جيرون