فن الضوء

9 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
6 minutes

يحكى أن الإسكندر الأكبر قدم لرؤية الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي الذي كان يسكن في برميل؛ وعندما سأله ماذا تطلب مني، قال له: لا تحجب الشمس عني، بظلك!

فهل كان ما طلبه أثمن ما في الوجود؟ أم كان الفيلسوف يسخر من الملك؟

لتكن البداية من بدء التكوين، من العماء الذي لم تره عين! فلا أحد منا يعلم متى أشرقت الشمس أول مرة على كوكب الأرض! جئنا جميعًا، بعد هذا الموعد بملايين السنين! فهو قديم، لم يسبقه شيء أو أحد! منه انبعث الكون وإليه يعود! والضوء -أيضًا- بريق عتيق، فطرنا عليه، لولاه ما بدأت الحياة وما كانت. من بين أهدابه انبثق الوجود، وبفضله تحرك العدم! فلسفة العتمة والضوء قديمة قدم الإنسان! عتمة الليل أرهبت الإنسان فقهرته وأصبح عبدًا لها؛ لكن الشمس -قاهرة العتمتين- (عتمة الكون وعتمة النفس)، بهرته؛ فعبدها وأقام لها المعابد والقصور: في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين… بعض البشرية اتخذ من القمر آلهة، وبعضهم عبدوا النار أو النجوم… ثم جاء التوحيد فقال إن الله نور السموات والأرض، ورأت جماعة منهم أن نوره يفيض على الكون، وقسّمه الصوفيون إلى درجات، فأينما وُجد نور الله كان الخير، وحيثما احتجب كان الشر (السهروردي، ابن عربي، والنفري الذى اتسعت رؤيته فضاقت عبارته)!

فلسفات قديمة كالجبال والأنهار والبحار، ومعتقدات لسنا الآن بصدد تفنيدها. ما نؤمن به ونعرفه جيدًا؛ هو أن المسرح كون صغير للغاية، صنعه المبدعون، وجعلوا “الشمس” تشرق فيه على هواهم، ثم تغيب! إنه أحد تجارب البشرية في عملية الخلق، لا يمكن أن تتفتّق إلا بواسطة النور والعتمة.

نستطيع –طبعًا- أن نقدم عرضًا مسرحيًا في وضح النهار، نستغني فيه عن الإضاءة، فقد كانت العروض الإغريقية تقدم قبل مغيب الشمس وتنتهي مع غروبها. حدث ذلك قبل الإغريق –بالتأكيد- واستمر قرونًا طويلة، ثم جاء عصر النهضة والأنوار، وكسبنا شمسًا جديدة، هي واحدة من أهم أدوات الفرجة وأكثرها تعبيرًا وتأثيرًا، وهي فن الإضاءة الذي يُعدّ اليوم من أهم عناصر المسرح، والذي أصبح، ليس مجرد وسيلة للرؤية؛ بل لغة، تحدد وتتحكم بأكثر من وظيفة جمالية وفكرية (بصر وبصيرة).

هذا ينطبق –كذلك- على فن السينما التي لا يمكن وجودها مع غياب الضوء –على الرغم من التطور التكنلوجي الهائل- وكذلك التشكيل والنحت والغناء والرقص والفنون البصرية كلها. أما في الأدب، فيتحول مفهوم الإضاءة إلى الرمزية؛ حيث يقوم الكاتب بإضاءة هذا الحدث أو تلك الشخصية، من خلال التركيز عليها ومنحها مساحة أكبر في الحدث والسرد والوصف والحوار معها، لتصبح الإضاءة في التأليف الموسيقى الأكثر تجريدًا، أكثر تعقيدًا ومجازية؛ حيث نرى بآذاننا، ويتوارى الضوء خلف النغمة، ويتماهى مع إيقاعاتها..

في البدء كان للإضاءة وظيفة واحدة هي الرؤية، لكن ما إن انتقل المسرح من المدرج المفتوح والضوء الطبيعي إلى الصالة المغلقة (الكنيسة)، حتى تمت الاستعاضة عن ضوء النهار بضوء الشموع والمشاعل، ثم الغاز والكيروسين، وبدأ معها ما نطلق عليه اليوم: فن الإضاءة! وقد كانت الأضواء في عصر النهضة توزع بدقة، بحيث تمكِّن المتفرج من رؤية المشهد بوضوح. “ثم جاء عصر النهضة في إيطاليا؛ وظهرت فيه الإضاءة المسرحية بأسلوب جديد نتيجة أفكار فناني ذلك العصر أمثال (سباثيني، وسيريليو) وغيرهما. فقد ابتكر فنانو ذلك العصر فكرةَ تخفيض الإضاءة في المسرحيات المأسوية، باستخدام أواني أسطوانية معدنية مدلاة من الأعلى بواسطة خيوط معدنية رفيعة، لتغطية الشموع.. كما فكروا في إخفاء مصدر الضوء.. إذ ابتكر سباثيني فكرة استخدام حواجز على شكل حرف T أمام كل شمعة، على طول مقدمة الخشبة، لحجب الضوء عن عيون المشاهدين، بينما ابتكر سيريليو طريقة العمل بالإضاءة الملونة، والتي اعتمدت على استخدام زجاجات مليئة بسائل ملون يوضع خلفها، مع وضع عواكس معدنية أمام الشموع؛ فيتخلل الضوءُ السائلَ الملون ويتلون بلونه”.

وقد كان لاختراع الكهرباء واكتشاف العلوم البصرية التي درست العين، ودينامية الرؤية، وتأثير الألوان على الجملة العصبية، دورٌ حاسمٌ في جعل الضوء والبقع الضوئية، من أولويات العرض المسرحي وأهم عناصره، لما تحققه من مناخ وقيم فنية ونفسية متنوعة.

لا يمكن رؤية الممثل بأبعاده الثلاثة، وإبرازه عند الحاجة، كليًا أو جزئيًا، إلا من خلال شدة الضوء وخفوته وألوانه، والظلال الناجمة عنه، ولا نستطيع رؤية التكوين الفني والإحساس به، أو فهم التناغم بين عناصره، وخلق المناخ التشكيلي والدرامي، إلا من خلال الضوء، ناهيك عن الإيحاءات والحيل الفنية والأجواء التي نستطيع خلقها، بواسطة شدة الإضاءة وخفوتها.

فكم كان ديوجين محقًا عندما قال للحاكم: لا تحجب الشمس عني بظلك!

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

غسان الجباعي