الثورة التي “ما كان يجب أن تحدث”



في هذا الشهر (تشرين الأول/ أكتوبر 2017) يكون قد مرّ قرنٌ على قيام الثورة البلشفية في روسيا. وفي 25 من كانون الأول/ ديسمبر 1991، كان الإعلان الرسمي عن تفكيك مجموعة دول الاتحاد السوفيتي، وسط ذهول وإحباط الشيوعيين في أنحاء العالم كافة، مُعلنًا نهاية التجربة الشائكة لمخرجات تلك الثورة.

دراسات وأبحاث كثيرة تناولت أسباب انهيار “التجربة الشيوعية” وتداعياتها، بعد انزياح الرقابة الماركسية عن آلية التفكير، لدى العديد من الباحثين الماركسيين، التي تجذرت مع انتصار  ثورة أكتوبر، واكتملت في الفترة الستالينية وما بعدها، وأصبحت بنيةً ومنظومة ثقافية للمنتمين إلى الأحزاب الشيوعية العالمية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي. حتى إن البعض من هؤلاء ما زالوا يعيشون في أوهام ثورة أكتوبر، حتى يومنا هذا، ويرون في روسيا البوتينية النموذجَ المحتذى به سياسيًا.

أما المبررات لضرورة عدم حدوث ثورة أكتوبر، فتبرز ليس من نتائجها وآثارها المدمرة فحسب، بل أيضًا من القوى التي عارضت حدوثها تلك الفترة، مرحلة 1917.

عودة إلى جذور هذه الثورة، وبالتحديد إلى ما قبل 1917، حيث أكد ماركس وإنجلز -أكثر من مرة- على ضرورة تطور الرأسمالية تطورًا صناعيًا ضخمًا، كشرط لقيام الثورة الاشتراكية، ومن المعروف أن روسيا القيصرية كانت في تلك المرحلة دولة ذات نمط إنتاج إقطاعي ونظام سياسي استبدادي، وكانت في المرتبة الحادية والخمسين في التطور الاقتصادي عالميًا، في ذلك الوقت، أي جاءت الثورة في أكثر البلدان الرأسمالية تخلفًا، بالمعنى الماركسي، حتى إنّ لينين نفسه أقرّ في كتابه (رأسمالية الدولة) بأن ما هو موجود في روسيا، هو رأسمالية برجوازية صغيرة.

مع إدراك لينين لهذا الواقع الروسي، أصرّ على ليّ عنق النظرية الماركسية والقيام بثورة، في بلدٍ متأخرٍ اقتصاديًا، يمثّل الحلقة الضعيفة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، حيث أقر ذلك في المؤتمر السادس للحزب، وأصدر ما يسمى بموضوعات نيسان/ أبريل 1917. وهو القائل: “إن البلاشفة ليسوا في حاجة إلى اتباع وصفة ماركس التاريخية، لقد انتظرنا الليبراليين والرأسمالين طويلًا، وبما فيه الكفاية، وليس هناك سبب لعدم الاستيلاء على السلطة الآن”.

أول المعارضين لقيام الثورة -آنذاك- كان الفيلسوف الماركسي “بليخانوف” 1856- 1918، الذي دعا إلى ثورة برجوازية ديمقراطية، وليس إلى ثورة اشتراكية، مع ضرورة وجود الأحزاب غير الشيوعية، حيث يستحيل قيام ثورة اشتراكية في روسيا التي تفتقر إلى التنمية الرأسمالية والتقاليد الديمقراطية، وتنبّأ بمستقبل دولة ثورة أكتوبر بقوله: “إن الشيوعيين لن يفعلوا شيئًا سوى استبدال الديكتاتورية القيصرية، بدكتاتورية بلشفية”.

أما “كارل كاوتسكي” والمعروف بأبي الماركسية (1854 – 1938)، فكان من أوائل ضحايا الدكتاتورية وغياب التقاليد الديمقراطية لدى الشيوعيين، حيث رأى أن لينين اختار طريق الديكتاتورية، وقضى على إمكانية بناء الديمقراطية. وفي عام 1934 أصدر كتابه (الماركسية والبلشفية)، فرأى أن البلاشفة -في ظل لينين- نجحوا في السيطرة على القوات المسلحة، في بطرسبورغ وموسكو؛ وبهذا أرسوا الأساس لديكتاتورية جديدة، تحلّ محلّ الديكتاتورية القيصرية. لقد كان الشيوعيون الروس -بالنسبة إليه- منظمة تآمرية، وصلت إلى السلطة بانقلاب عسكري، وبدأت بتغييرات ثورية، لا منطق لها في الواقع الاقتصادي الروسي الذي لا يحتملها، وهكذا تم بناء دولة دكتاتورية بيروقراطية، من دون وجود القيصر فيها، تفتقر إلى أي ملامح ديمقراطية، حتى إلى أعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي أنفسهم، إضافة إلى إنتاج ثقافة بعيدة عن الحس النقدي، ثقافة استبدادية باسم دكتاتورية البروليتاريا.

وردًا على ادعاء لينين بأن الجماهير تقف مع حزبه ومع الثورة، قال: “لو كان ذلك صحيحًا لما كان هناك داع للدكتاتورية والعنف تجاه الآخرين”. وعلى إثر هذه التصريحات؛ اتهم “كاوتسكي” بالماركسي المرتد والتحريفي، وصار مثالًا لكل من يخرج من الأحزاب الشيوعية، حيث ينعت بـ “الكاوتسكي المرتد”. وتم اعتماد كتاب لينين (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي)، ككتاب تثقيفي لكل المنتسبين الجدد إلى الأحزاب الشيوعية، في أنحاء العالم كافة.

أما الاشتراكي الديمقراطي الروسي “يوري مارتوف” زعيم ما أطلق عليهم بـ “المناشفة”، فقال في تلك الفترة: إن روسيا لم تنضج للاشتراكية بعد، وأراد بناء حزب ديمقراطي، داعيًا إلى القيام بثورة ديمقراطية برجوازية، تتخلص من الاستبداد القيصري، وتنقل روسيا باتجاه الحداثة الغربية، وكان مصير أنصاره السجون والمنافي. وحتى “غرامشي” وصف ثورة أكتوبر بأنها ثورة ضد رؤية ماركس؛ لأنها تتغاضى عن الشروط المادية اللازمة للشروع في الثورة الاشتراكية. وأخيرًا، فإن لينين أقر بنفسه سنة وفاته 1924 أنه: “من الواضح أننا كنا نريد بناء مجتمع جديد، بواسطة صيغة سحرية، في حين أن مسألة كهذه تستلزم عشرات السنين وعدة أجيال”.

ورث ستالين تركةَ لينين؛ فأقام نظامًا دكتاتوريًا عبوديًا، دمّر فيه الحس الإنساني، لدى الروس، وما زالوا يعانون منه حتى الآن، حيث أعدم أكثر من عشرة ملايين شخص، غالبيتهم أعضاء في الحزب الشيوعي السوفيتي، واعتقل الملايين، واختفى معظمهم، وهذا ما قوض إمكانية قيام دولة حقيقية، كما هو متعارف عليها بالقانون السياسي.

أصبح دور الحزب الشيوعي السوفيتي العملَ على خدمة سياسة الدولة السوفيتية، دون إمكانية إبداء أي رأي معارض للسلطة السياسية، بل تم توجيه الأحزاب الشيوعية في العالم، التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي، وخصوصًا في بلدان العالم الثالث، للعمل على خدمة مصالح الدولة السوفيتية فقط، وبما يخدم سياسة الحرب الباردة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية، إذ شكلت عبئًا ثقيلًا على ميزانية الدولة، وأرهقتها اقتصاديًا، في ضرورة التوازن الاستراتيجي العسكري؛ مما اضطر الاتحاد السوفيتي عام 1978 إلى استيراد القمح بكميات كبيرة، من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا، وتعمّقت الفجوة التكنولوجية، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية، فعلى سبيل المثال، كانت نسبة استخدام الكمبيوتر، لدى السوفييت، لا تتعدى 32 في المئة، مقابل 100 في المئة، في الولايات المتحدة، ووصلت نسبة البطالة إلى مليونين عاطل عن العمل عام 1985.

هذا كله يضاف إلى تحالفها ودعمها للعديد من الدول الدكتاتورية، تحت شعار تقدميتها وصنع متحالفين معها، ونموذج النظام السوري خير مثال، حيث وقّع “الأسد الأب” و”ليونيد بريجنيف”، في 8 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1980، معاهدةَ صداقة وتعاون بين البلدين، في وقتٍ أمر فيه حافظ الأسد، قبل صعوده إلى الطائرة المتوجهة إلى موسكو، الأجهزةَ الأمنية باعتقال الشيوعيين السوريين (الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي) و(حزب العمل الشيوعي) الخارجين عن المنظومة السوفيتية الرسمية، وزجهم في المعتقلات والسجون السورية، والمفارقة أن العديد من الكتل البرلمانية والمنظمات الحقوقية في الدول الرأسمالية احتجت على اعتقالهم، وطالبت بإطلاق سراحهم، بينما رفاقهم في الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية التي تدور في فلك سياسة الاتحاد السوفيتي باركت اعتقالهم. وهنا أستحضر تساؤل أحد الأصدقاء، بمرارة، وهو في المعتقلات السورية: كيف نناضل ضد الدول الإمبريالية التي تطالب بإطلاق سراحنا من المعتقلات، ونتعاطف ونؤيد سياسة الاتحاد السوفيتي، حتى لو كانت مباراة لفريق كرة القدم!

لم تستطع “البيروسترويكا” وعرّابها “غورباتشوف”، كمحاولة إنقاذٍ للنظام الاشتراكي المنهار اقتصاديًا واجتماعيًا، من خلال إدخال بعض الحرية والديمقراطية، إحرازَ أي أمل لإنقاذ الدولة المتهالكة، وسرعان ما انهار النظام الاشتراكي؛ فتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.

والدليل على تعطش الشعوب الروسية إلى الحرية والديمقراطية، ظهور واحد وثلاثين ألف حزب سياسي متعدد الأيديولوجيات الفكرية والسياسية، فور الإعلان عن انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكنهم مجمعين على مطلب الديمقراطية، كأفضل وسيلة للحكم القادم.

أقول هذا، وأنا أتحسّر على السنوات التي أضعتها -كما غيري- في قراءة كتب (دار التقدم) الصادرة في موسكو، والتي شوهت وأعاقت آلية تفكيرنا وتعاطينا مع الثقافات والتنوع، ومفهوم الإنسانية والديمقراطية.




المصدر
طلال المصطفى