المواطنة وحقوق المواطن العربي بين الدستور والقانون



عندما تتماهى الدولة، بكامل أجهزتها الإدارية والمالية والاقتصادية والعسكرية، مع السلطة الحاكمة؛ يصبح النظام الحاكم هو الدولة، وتصبح الدولة هي النظام الحاكم، ويكون التمييز بينهما مستحيلًا، ومن خلال نظرة سريعة على واقع الحال في الدول العربية، نرى بوضوح أنه لا يوجد فصل بين هيئة النظام وهيئة الدولة، ولا يوجد فصل بين السلطات القضائية والعسكرية والتشريعية والتنفيذية، فكل هذه السلطات بيد السلطة الحاكمة وتعمل لمصلحة استمرارها بالحكم.

كان للمنطقة العربية، ولا سيّما بلاد الشام، نصوص دستورية منذ آلاف السنين قبل الميلاد، في زمن مملكة أوغاريت وبابل، وكان من أشهرها قانون حمورابي، وفي مرحلة بداية الإسلام كان القرآن هو دستور أهل البلاد، ولكن سريعًا أصبح الولاة يضعون القوانين الخاصة بهم، وإن كانت مُغلّفة بغلاف ديني، لكنها تضمن استمرارهم بالحكم، واستمر هذا الحال حتى إبّان الحكم العثماني للمنطقة.

في بداية خمسينيات القرن الماضي، وفي بداية فترة استقلال الدول العربية عن الاستعمار الغربي (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا)، بدأت كتابة الدساتير العربية، وكانت مزيجًا من دساتير الدول المستعمِرة ومن الدين الإسلامي والعادات والتقاليد، وكانت هذه الدساتير متشابهة فيما بينها بالعناوين الرئيسة والعامة (دين الدولة، اللغة، الحدود… إلخ)، وفيها من نصوص دساتير الدول الغربية، ما يخص حقوق الإنسان والمرأة والطفل وغير ذلك.

لكن بقيت كل هذه الدساتير حبرًا على ورق، وأصبحت مثل قطع الديكور على الرفوف، بسبب عدم وجود هيئه تشريعية برلمانية حقيقية ومستقلة، تكتب هذه الدساتير وتُشرف على تطبيقها، فالهيئات التشريعية والبرلمانية العربية على نوعين:

1 – برلمانات “مُنتخَبة” بشكل وهمي، ويشوبها التزوير عامة، من خلال تدخل السلطة، عبر أدواتها الأمنية والإعلامية وغيرها من الأدوات، من أجل ضمان وصول الموالين للسلطة إلى كراسي البرلمان.

2 – هيئات شكلية، تم ندبها وتعيينها من السلطة الحاكمة.

وفي كلتا الحالتين تكون هذه الهيئات غير مستقلة، وعاجزةً عن كتابة دستور أو الإشراف على حُسن تطبيقه وتنفيذ نصوصه. لكن أين هي المواطنة وحقوق المواطن في هذه الدساتير؟ بعد الاطلاع وقراءة معظم الدساتير العربية؛ نجد أن جميعها تنص على وجوب احترام حقوق الإنسان وكرامته! إذًا أين مكمن المشكلة؟

المشكلة أن كل فقرة في الدستور تقول: “تُطبّق هذه الفقرة حسب القوانين والأنظمة”، واستنادًا إلى هذه العبارة؛ تقوم السلطة الحاكمة بتفريغ الدستور من محتواه، وبالتالي تُجمّده وتلغي كل مفاعيله، وبعد ذلك تُحكم الدولة بقوانين السلطة الحاكمة التي تمر شكليًا، من خلال التصويت في برلمانات موالية لهذه السلطات، وأحيانًا تصل وقاحة القانون إلى أن يُخالف النص الدستوري صراحة، وأحيانًا مواربة.

إن بقاء سلطة كتابة القانون وتفسيره بيد السلطة الحاكمة المطلقة، وضبابية تفسير هذه القوانين، تجعل المواطن كمن يسير في حقل ألغام، فتختلط عليه الحقوق والواجبات، ويصبح حذرًا في كتاباته وكلامه وإبداء آرائه، لكيلا يجد نفسه في مواجهة القانون أو تفسير هذا القانون، حسب مزاج الحاكم، والأمثلة كثيرة لا تُعد ولا تُحصى حول الأشخاص الذين تعرضوا للأذى، بسبب آرائهم أو كتاباتهم (وإن لم يكونوا سياسيين)، منهم الأدباء والكتاب والصحفيون والفنانون.. إلخ.

أحيانًا، تكون عقوبةُ كتابة قصيدة أو نص أدبي أو مقالة صحفية (أو شخبطة أطفال على جدار) السجنَ أو الإعدام أو النفي والتهجير (وأحيانا تدمير الدولة)، وكل ذلك تحت عنوان “الحفاظ على الأمن القومي”، أو تهمة “محاولة قلب نظام الحكم” والاستيلاء على السلطة، وحينئذ لا توفر السلطة رجال القانون من الاعتداء عليهم واعتقالهم وإعدامهم، وكل ذلك تحت جناح “الدستور” الذي أصبح لغزًا وأحجية عصيّة على الفهم، وكل ما سبق يتم حسب “القوانين” التي وضعتها السلطة، وأخضعتها لتفسيرها.

إن هذه الضبابية في القوانين وتفسيرها هي ضبابية متعمدة، من طرف السلطة الحاكمة، فتطبيقها وتفسيرها يأتي دائمًا لمصلحة السلطة واستمرارها في الحكم.

يُساعد هذه السلطات في غيّها وطغيانها الحكوماتُ الغربية والأميركية، من خلال نفاقها لهذه السلطات خِدمةً لمصالحها الاقتصادية والأمنية في المنطقة، وضمان السيطرة على ثروات الشعوب لأطول فتره ممكنة.

لذلك؛ نرى أن المساندة الخجولة والمشروطة أحيانًا من طرف الدول الغربية وأميركا لثورات الشعوب ما هي إلا نفاق جديد، من أجل ضمان مصالحها التي تتمثل بعدم السماح للديمقراطية بالوصول إلى هذه الشعوب، وليس حبًا في هذه الشعوب، وحرصًا على منحها الحرية والكرامة. لكني -رغم كل ما حدث ويحدث- متفائلٌ بقدرة هذه الشعوب التي استيقظت، وإني لأرجو أن لا تسمح هذه الشعوب، في هذه المرة، للغرب وأميركا، بسرقة مستقبلها واستغلال طموحاتها.




المصدر
مشعل العدوي