واشنطن بوست: يثبت التاريخ مدى خطورة قيام الحكومة بتنظيم الأخبار المزيفة



في القرن الرابع قبل الميلاد، لاحظ الخطيب الأثيني (ديموستينس) أنَّ الفرقَ بين الديمقراطية الأثينية، والأولغارشية السبارطية، هو أنَّه في أثينا يمكن للشخص الثناء على الدستور السبارطي، وانتقاد الدستور الأثيني؛ بينما في سبارطة، فالثناء على أيّ دستورٍ آخر ممنوعٌ.

ولا يزال هذا الاختبار مناسبًا للديمقراطيات بعد أكثر من 2000 سنة. ولكن من الأهمية بمكان بالنسبة لديمقراطيةٍ ليبرالية حقيقية ألا يستطيع أحدٌ، ولا سيما مؤسسة رسمية، أنْ يحدّد الحقيقة في مسائل السياسة، والنقاش العام.

ومع ذلك، يشعر رئيس مكافحة الاحتكار في إيطاليا، جيوفاني بيتروزيلا بالقلق من كمية المعلومات على شبكة الإنترنت، إذ إنه دعا إلى تنظيم الحكومة لمكافحة الأخبار الوهمية. يبني بيتروزيلا قضيته على النقيض من التعديل الأول للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وهو ما يقول إنّها لا توفّر حمايةً دستورية من “أخبار وهمية”. ويرجع ذلك إلى تفسير حدود الخطاب المحمي الذي يقول: إنَّ توزيع “أخبار وهمية”، وفق كلمات بيتروزيلا، ينتهك حق الأوروبيين في أنْ يحصلوا على المعلومة من مصادر متعددة”.

نحن نتفق مع بيتروزيلا على أنَّ النشر المتعمد للمعلومات الكاذبة يشكّل تهديدًا لأيّ مجتمع. ومع ذلك، فإنَّ استراتيجيته لمكافحة البيانات الزائفة قد تكون أسوأ من الأكاذيب نفسها. إذ قال: إنَّه يريد من الحكومة أنْ تشارك في عملية التحقق من المعلومات، وإزالة ما يُعرف بأنَّه “أخبار مزيفة”، وأنَّ شركات الإعلام التي لا تتوافق مع ذلك، لا بدَّ أنْ تُغرَّم.

هذه قضيةٌ إشكالية لعدة أسباب. أولًا، هناك كميةٌ هائلة من البيانات التجريبية من مختلف البلدان على مرِّ التاريخ، تُوضح أنّ الحكومات الديمقراطية أيضًا تميل إلى استخدام هذا النوع من السلطة لإسكات المعارضين، ومنع الخطاب الذي لا يحبذونه. خلال الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، أسفر تقييد الحقيقة عن إعدام أولئك الذين اتُّهموا بنشر أخبارٍ كاذبة، وطالت الأحكام أيّ شخصٍ ينتقد أولئك الذين يقفون وراء “عهد الإرهاب”. في عام 1798، أصدر الكونغرس الأميركي “قانون الفتنة” من أجل معاقبة التصريحات الكاذبة حول الحكومة التي تصدر بقصدٍ خبيث. وكان يستخدم ذلك القانون لقمع الرأي المختلف مع إدارة الرئيس جون آدامز.

هذا هو أحد الأسباب التي تجعل محاكمات الأكاذيب حول الحكومة محظورة،ً في الولايات المتحدة، لأن هذا النوع من الكلام (الأكاذيب) محميّ بالتعديل الأول.

من المثير للاهتمام أنَّ الرئيس دونالد ترامب اقترح تغيير قوانين التشهير، لتشمل ما يُصنّفه بأنّه “أخبار مزيفة” عنه، من قبل وسائل الإعلام الرئيسة مثل صحيفة (نيويورك تايمز)، وعلى ما يبدو، يلقى ترامب بعض الدعم لهذه الفكرة غير الدستورية. وردًّا على سؤال في استطلاع أجرته مجلتا (إيكونيميست) و(يوجوف) حول ما إذا كان ينبغي أنْ تكون المحاكم قادرةً على “إغلاق” وسائل الإعلام” لنشرها أو بثها أخبارًا متحيزة أو غير دقيقة”، فإن 45 في المئة من الجمهوريين يؤيدون، و55 في المئة من الجمهوريين يفضلون تغريم تلك المنافذ الإعلامية “المتحيزة أو غير الدقيقة”. ولكن التعديل الأول يقف في طريق ترامب لتقييد الصحافة التي تنتقد شخصه وسياساته.

ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ الأوروبيين سيكونون أكثر مسؤوليةً، إذا ما أُتيحت لهم إمكانية تجريم الأخبار المزيفة. بالفعل، فبعض الدول الأوروبية، بما في ذلك بولندا والمجر، قد تحركت ضد وسائل الإعلام المستقلة والناقدة. وفي بعض الحالات، سيكون من المستحيل على منشور أنْ يدافع عن نفسه بفاعلية ضد اتهامات إخبارية مزيفة. تخيّل أنَّ صحيفة (الغارديان) نشرت أخبارًا تستند إلى مصادر مجهولة عن الانقسامات العميقة، حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي داخل الحكومة البريطانية، وأنكرت الحكومة البريطانية لاحقًا القصة، واتهمت (الغارديان) بنشر أخبارٍ مزيفة لتقويض الحكومة، وعرقلة عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كيف ستثبت (الغارديان) أنَّ أخبارها صحيحة من دون أنْ تضطر إلى الكشف عن مصادرها، وبالتالي تقوّض عنصرًا أساسيًا في الصحافة النقدية؟

في المجتمعات غير الديمقراطية، يشكّل الحظر المفروض على نشر المعلومات الكاذبة أداةً قوية للمساعدة في اضطهاد الأقليات الدينية، والإثنية، وإسكات المعارضة السياسية. هذا ينطبق على البلدان الشيوعية ذات الستار الحديدي خلال الحرب الباردة، فضلًا عن الأنظمة الاستبدادية الحالية، مثل مصر، وروسيا، والصين، وتركيا. والواقع أنَّ القوانين ضد الأخبار المزيفة المتعلقة بالأحداث السياسية -بدلًا من التشهير الموجه إلى الأفراد- تتطلب أنْ تمكّن الديمقراطياتُ الشرطةَ، وفي نهاية المطاف، القضاة لأن يصبحوا مُحكمين للحقيقة. إنَّ التهديد بالعقاب من شأنه أنْ يخيف الناس، وأن يردع حتى التصريحات، والآراء الحقيقية.

صحيحٌ أنَّ المعايير الأوروبية لحقوق الإنسان لا تحمي أصنافًا مثل خطاب الكراهية، وإنكار المحرقة، أو تقديم أيديولوجية النازية أو الجهادية، ولكنَّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لم تصدر بعد قرارها الأول، بشأن الأخبار المزيفة. وفي قضية (سالوف) ضد أوكرانيا، رأت المحكمة الأوروبية ما يلي:

“لا تحظر المادة العاشرة من الاتفاقية، في حدِّ ذاتها، مناقشة أو نشر المعلومات الواردة حتى إذا كان هناك شكٌ قوي في أنَّ هذه المعلومات قد لا تكون صادقة. واقتراح خلاف ذلك من شأنه أنْ يحرم الأشخاص من الحق في التعبير عن آرائهم، ووجهات نظرهم بشأن التصريحات المقدَّمة في وسائط الإعلام، ومن ثم يضعون قيودًا غير معقولة على حرية التعبير”.

هناك حالةٌ قوية جدًا للحجة القائلة إنَّ تجريم الأخبار المزيفة يعرّض حرية التعبير لمشكلات في الاتفاقات الدولية، وغيرها من الاتفاقات الإقليمية لحقوق الإنسان. وأفادت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان، في رأيٍ استشاري، أنَّ “نظامًا يسيطر على حق التعبير باسم ضمانةٍ مُفترضة لصحة وصوابية المعلومات التي يتلقاها المجتمع، يمكن أنْ يكون مصدرًا لسوء المعاملة الشديدة، وفي نهاية المطاف، ينتهك الحق في المعلومات التي يملكها هذا المجتمع نفسه”.

في الكاميرون، ذكرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في حكمٍ صدر عام 1999، أنَّ “مقاضاة الصحفيين، ومعاقبتهم على جريمة نشر أخبارٍ مزيفة على أرض الواقع، من دون أنْ تكون أكثر من خبرٍ كاذب، [هو] عدوانٌ واضح على المادة 19 من الميثاق”.

ومما له دلالةٌ على أنَّ إعلانًا مشتركًا بشأن هذه المسألة صدر في 3 آذار/ مارس في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة الدول الأميركية، واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وينص الإعلان على أن “الحظر العام على نشر المعلومات، استنادًا إلى أفكارٍ مبهمة وغامضة، بما في ذلك” أخبار كاذبة “أو” معلومات غير موضوعية”، لا يتفق مع المعايير الدولية للقيود المنظمة لحرية التعبير… وينبغي إلغاؤها”.

يشير بيتروزيلا إلى أنَّ الحكومة يجب أنْ تنظم الأخبار والكلام حتى نتجنب “زيادة المعلومات” و “الاستقطاب الجماعي”. وهناك طريقةٌ أفضل لتحقيق ذلك من خلال التعليم، وبناء الوعي، والتدريب حتى نتعلم أهمية التعرض لوجهات نظرٍ أخرى، والحصول على الأدوات اللازمة لمعرفة المعلومات المقدّمة لنا: إن كانت كاذبةٌ أم لا. يمكن للمواطنين في العصر الرقمي أنْ يفعلوا الكثير لتجنب الفضاء الاجتماعي الذي تقوده الخوارزميات، بما في ذلك التفاعل مع حسابات وسائل الإعلام الاجتماعية من الناس الذين نحن نختلف معهم بشدة، أو إجراء بحوث إضافية على قصص “إخبارية”، تناسب تحيزاتنا الخاصة.

وعلى الرغم من أنّه قد لا توجد إلا أقليّة تختار هذه المقاربة النقدية لاستخدام الأخبار، ينبغي أنْ نسمح بثقافة جديدة، تتلاءم مع العصر الرقمي، بأنْ تعلن عن نفسها، على الرغم من أنَّه ينبغي مساعدة العملية من خلال التعليم، والتفكير النقدي. وهذه العملية جاريةٌ بالفعل، حيث تتصدى العديد من الجامعات، ومراكز الأبحاث، والمنظمات غير الحكومية لمسألة الأخبار المزيفة والفضاء الاجتماعي، في حين يجري اختبار مبادراتٍ جديدة تهدف إلى مكافحة هذه الظواهر، بينما نحن نتكلم.

نعم، عصرنا الرقمي، وانفجار الخطاب، والاتصال على وسائل التواصل الاجتماعية هي ظواهرٌ فريدة من نوعها، ولكن إدخال المطبعة في القرن الخامس عشر، وتأثيره على العالم في القرون التالية قد يكون بمثابة تشبيهٍ مفيد، لربما يأخذ منه بيتروزيلا درسًا أو اثنين. في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أثار الوصول إلى الصحافة موجاتٍ من الأخبار الوهمية، ونشر نظريات المؤامرة الفظة حول سحرةِ وتخوفاتِ الألفية. وقد طُبع التعصب الديني جنبًا إلى جنب مع الاكتشافات العلمية. خلال القرن الأول بعد غوتنبرغ، فعلت الطباعة الكثير لنشر الأكاذيب، والمعلومات المزيفة كما نشرت الحقيقة التنويرية.

في ذلك الوقت، ذُعرت السلطات الدينية، والسياسية، وأنشأت أنظمة رقابةٍ صارمة، مثل “دليل الكنيسة الكاثوليكية”، حول الكتب المحظورة، إذ كان له عواقب كارثية. أما الذين لم يستخدموا المطبعة؛ فقد تخلفوا عن مستخدميها الأوائل. في وقتٍ لاحق، اتضح أنَّه أكثر أهمية بكثير لاستكشاف أهمية صعود التكنولوجيا الجديدة أكثر من الحماية من الجانب السلبي المحتمل. في مواجهة صعود وهبوط التكنولوجيا الرقمية في القرن الحادي والعشرين، يجب علينا أنْ ننتبه إلى هذا الدرس.

اسم المقالة الأصلي History proves how dangerous it is to have the government regulate fake news الكاتب فليمنغ روز وجاكوب ماشانغاما، Flemming Rose and Jacob Mchangama مكان النشر وتاريخه واشنطن بوست، The Washington Post، 3/10 رابط المقالة https://www.washingtonpost.com/news/theworldpost/wp/2017/10/03/history-proves-how-dangerous-it-is-to-have-the-government-regulate-fake-news/?utm_term=.af733a3a2942 عدد الكلمات 1237 ترجمة أحمد عيشة




المصدر
أحمد عيشة