اتفاق أستانا ضمن عملية سلام متوقفة



في وقتٍ ما يزال فيه الصراع في سورية مستعرًا على الأرض، عُقدت الجولة السادسة من محادثات أستانا في أيلول/ سبتمبر الماضي، في عاصمة كازاخستان، حيث توصلت كل من روسيا وتركيا وإيران إلى اتفاق نهائي، بشأن أربع مناطق لخفض التصعيد، تشمل محافظات إدلب، حلب، حمص، حماة، اللاذقية والغوطة الشرقية، ولفترة أولية 6 أشهر. وطبقًا للاتفاق، فإن مناطق خفض التصعيد يجب أن تتوقف فيها الأعمال القتالية بين النظام وحلفائه، وقوات المعارضة التي استثنيت منها المجموعات “الإرهابية”، مثل تنظيم الدولة/ (داعش) و(هيئة تحرير الشام). رسميًا، لا النظام السوري ولا جماعات المعارضة وقّعت على هذا الاتفاق، لكن رعاياهما الإقليميين والدوليين (روسيا وإيران بالنسبة إلى النظام، وتركيا بالنسبة إلى المعارضة) سيكونون ضامنين لتطبيقه، وسينشرون مراقبين مباشرة على الأرض لمراقبة الوضع.

على هذا النحو، أثبتت لقاءات أستانا أنها أكثر نجاحًا من محادثات جنيف التي تقودها الأمم المتحدة، والتي ركزت على التوصل إلى حل سياسي موسع؛ وأيّ جهد في هذا الاتجاه قد يعرقله أي عائق، بشأن الوصول إلى أي حل توافقي يتعلق بالقضايا الأساسية، حيث الأول والأهم هو مستقبل بشار الأسد.

رفض ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري، الدبلوماسي والخبير، حتى النظر في إمكانية رحيل الأسد، كما رفض الاعتراف بالمعارضة والتفاوض المباشر مع خصومه. الاهتمام الوحيد الذي يكرره هو النغمة السائدة منذ عام 2011؛ ضرورة مكافحة “الإرهاب”. بشكل عام، كان التزام نظام الأسد بالمفاوضات السياسية دائمًا غير كافٍ، في أحسن الأحوال، وقد وصف الأسد مباحثات جنيف بأنّها “مجرد اجتماع لوسائل الإعلام لا أكثر”.

على طول جبهات الحرب السورية، ترفض المعارضة السورية رفضًا قاطعًا، أيّ اتفاق من شأنه أن يُبقي بشار الأسد في السلطة، بعد سنوات من المجازر والفظائع. لو فرضنا جدلًا، حتى إنْ تمّ النظر في هذه المسألة؛ فإنّهم سيفقدون ماء الوجه أمام الملايين من السوريين الذين عانوا على يد هذا النظام، ولن يقبلوا أبدًا بأن يذهب موت أحبائهم هباء.

علاوةً على ذلك، مُنعت أكثر العناصر المسلحة الفاعلة والمؤثرة على الأرض في سورية، وهي (قوات سورية الديمقراطية) التي يسيطر عليها الأكراد، من حضور مباحثات جنيف. ترى تركيا، وهي من كبار القوى الإقليمية في القمة، أنّ المنظمة مرتبطةٌ بحزب العمال الكردستاني (PKK) وهو جماعة كردية “إرهابية” متشدّدة، هي حاليًا في حالة قتال مع القوات التركية، في المحافظات الشرقية من البلاد.

في ظلّ هذا المأزق الذي يشلّ أي تقدمٍ ملموسٍ في مباحثات جنيف، بدأت عملية أستانا رسميًا، في كانون الثاني/ يناير 2017. لكنّ المستغرب أن محادثات أستانا قد شهدت نجاحًا طفيفًا؛ حيث أخمدت القتال في عدة مناطق، وجمعت بين جماعات المعارضة والنظام السوري، في غرفة واحدة أخيرًا، غير أنّ التفاؤل المفرط، في أحسن الحوال، سيكون سابقًا لأوانه. إذ إنّ انعدام الثقة بين مختلف الأطراف المنخرطة في الصراع في سورية ما زال عاليًا، وبينما رحبت المعارضة بجهود الإغاثة المحتملة للمدنيين التي يمكن أن تحققها مناطق خفض التصعيد، إلا أنها أيضًا أعربت عن شكوكها بشأن حسن نية روسيا وإيران في قول لا لنظام الأسد.

يبدو أنّ انعدام الثقة هذا، قد برهنَته الأحداث الأخيرة على أرض الواقع في أيلول/ سبتمبر، مع الهجمات الشديدة التي شنّتها قوات النظام السوري وحلفائه، في المناطق المشمولة بمناطق خفض التصعيد، ولا سيما في إدلب وحماة. وقد أدّت هذه الهجمات -كانت الاعتداءات على المناطق التي تسيطر عليها (هيئة تحرير الشام) وفروعها المحلية، والتي لم تدرج في اتفاق أستانا-  إلى إصابات كبيرة في صفوف المدنيين، حيث استهدفت 4 مستشفيات على الأقل. هذه الأعمال التي تنتهك القانون الدولي بشكل صارخ، تثير شكوكًا خطيرة حول نيّات النظام وحلفائه، وبخاصة روسيا التي يعتمد عليها النظام في الدعم الجوي والأرضي. لذلك، فإنّ الصورة على أرض الواقع في سورية لا تسمح بالتفاؤل، وقد قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن شهر أيلول/ سبتمبر كان الشهر الأكثر دموية في عام 2017 حتى الآن. حيث أشارت تقارير إلى مقتل 3050 شخصًا، وبلغ عدد ضحايا المدنيين 955، منهم 207 أطفال دون سنّ الثامنة عشر، معظمهم أصيبوا نتيجة قصف النظام والطيران الروسي.

الوقت وحده كفيل بتحديد إن كانت مناطق خفض التصعيد ستنجح في الحد من مستوى العنف، ولكن بوجود مفاوضات ذات أفق مسدود، يبدو من المستبعد أن يكون التوصل إلى حل سياسي في المستقبل القريب ممكنًا. يكسب الأسد على الأرض، وليس لديه القوة الدافعة لتقديم التنازلات إلى المجتمع الدولي أو إلى الأغلبية العظمى من شعبه.

مع ذلك، حتى لو أثبتت مناطق خفض التصعيد نجاحها؛ فإنّ المسألة يمكن أن تؤدي إلى وجود مناطق عرضة للتنافس مستقبلًا؛ فتقسيم البلد كنتيجة أمرٍ واقع، تحت سيطرة كلّ من روسيا وتركيا وإيران، سوف يبلور نموذج “البلقنة” في البلد. وهذا يمكن أن يمهد الطريق لنفوذ أجنبي أكبر، ومع أهداف وجداول أعمال متضاربة بطبيعتها، في مستقبل سورية. لن تكون وصفة مثالية للاستقرار.

في هذا السياق، رحّب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، باتفاقات أستانا، باعتبارها تطورًا ناجحًا. بيد أنه دعا إلى عقد جولة جديدة من المباحثات في جنيف في غضون شهر، محذرًا الأطراف المتناحرة من أنّه لا يوجد حلّ بديل عن اتفاق سلام مدعوم دوليًا، على أساس ما يسمى بـ “السلال الأربع”، وهي: الحكومة الانتقالية اللاطائفية، دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة في المرحلة الانتقالية، وحرب موحدة ضد الإرهاب. وعلى الرغم من تصميم مبعوث الأمم المتحدة، إلّا أنّ السياق الحالي يشير إلى أنه لا يمكن تحقيق سوى القليل جدًا في محفلٍ، ترفض فيه الأطراف المتصارعة حتى التحدث مع بعضها البعض، فضلًا عن أن تقرر المرتكزات الرئيسة لمستقبل البلد.

* الكاتب: لورينزو باريلا Lorenzo Barella؛ باحث زائر في مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، محلل سياسي وقانوني إيطالي، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ودرجة عليا في حقوق الإنسان وإدارة الصراعات من مدرسة سانت آنا للدراسات المتقدمة – بيزا/ إيطاليا (Sant’ Anna School of Advanced Studies – Pisa, Italy)، عمل سابقًا في الجولان السوري المحتل وفي فلسطين، ويركّز حاليًا بشكل رئيس على المساءلة والعدالة الانتقالية في سورية.

العنوان الأصلي The Astana agreement within a stalling peace process الكاتب لورينزو باريلا* المصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة، برنامج الباحثين الزائرين الدوليين المترجم جيرون

 




المصدر
لورينزو باريلا