قوّة المعنى في (الأسود الذي لا ترينه)



لا يخلو ديوان (الأسوَد الذي لا ترينَه) للشاعر المغربي محمد يويو، والحائز جائزة دار التكوين بدمشق للديوان الأوّل عام 2016، من مسحةٍ فنتازية غرائبية، تؤسّس نزع الألفة على غدرٍ مستمر بأفق توقّع المتلقي، في كثيرٍ من مسافات أو فجوات التوتّر التي تنطوي عليها القصائد.

وبهذا المعنى، تحتفي معظم عوالم الديوان، بتمدّد طموح لحضور الذات الشعرية الافتراضيّة على حساب اندغام الذات الشاعرة الوقائعية بها وتمزّقها مجازيًا، ولا سيّما في ظلّ تعيّن هذا الحضور في قلب الغياب، ومجاوزته لأيّ شبهة مطابقة مسبّقة مع المعنى/ الحقيقة. قال محمد يويو في قصيدة (أنتَ.. حيث أنتَ): “أنتَ حيث أنت/ تمثالٌ مقلوبٌ/ لو أنّنا قلبنا التماثيل ستراها تلوّح لك/ لك أنت.. حيث أنت/ حيث النوافذ تنحب، تجرجر قدمك الثالثة/ وأنت حيث أنت.. تمثالٌ مقلوبٌ لا تشبه/ فيض اعترافات العربات اللواتي يجرّهنّ خيالك/ قططٌ ضالّةٌ تأكل أصابع قدمك/ تحاول عبثًا صدّها بالمقلوب/ لن تفهمك القطط/ وحدها التي بلا أغطية/ قدْ تفهمك../ صدرك الطّافح بمناقير الغربان/ يزدحم بمفكّرات الغرقى المبكّرين”.

وهكذا، تحتفي النزعة الفنتازية الغرائبية المتقنة في مواضع كثيرة من قصائد الديوان، بتعليق الأجوبة اتّكاءً على تمويه الأسئلة، وبإرجاء الدلالات عبر تفجير لغة ملتبسة، تنطوي في مونولوجها الهامس العميق على نفحات من المناخ السوداوي المتشابك مع رمزية ناهضة على حركيّة التشتت الذاتي/ الوجودي. قال الشاعر في قصيدة (ولدوا بحفّاظات): “يدعني/ يأخذ منّي حصاتي/ وشمسيّةً لم أتمّمْ مسْح ثقوبها/ وتساقط الأطفال من حولي/ طفلًا.. طفلًا/ الأوّل لا يشبه الثاني/ ولدوا بحفّاظات مخدومة بعناية/ وكانوا هادئين../ لم يحسنوا إقناع منْ في الأرض بالبقاء”.

تبطّن النّفحة السوداوية الغائرة تحت طبقات استنطاق الوجود، بين حضور الذات وغيابها، التّوالد اللغويّ الحامل لنموّ النصوص، وتدير هذه النّفحة الظّهر للمباشرة بإحكامٍ رشيق، فاتحةً المعنى على قوّة تعدّدٍ دلاليٍّ مسنودٍ بحسن التخلّص، وبانسيابية تخليق مجازية رمزية تنفخ في خطابات العوالم الشعرية أبعادها الجمالية الخاصة التي لا تكفّ عن توليد الدهشة في أساليب وجود تميل إلى السريالية في أحيان كثيرة. قال محمد يويو في قصيدة (أنت النّبتة): “تهزأ من فكرة أنْ تكون أنت النبتة/ فوق قبرٍ مستعمل/ لأحد الجنود القدامى/ القدامى جدًّا../ ذوي الزعانف المخجلة/ الأكيد.. أنّك لم تشهدْ ولادتك الأخيرة/ ولادتك الأخيرة من معولٍ وإطارٍ شفيف../ أوووه… يا لجمال صورتك المؤطّرة/ لم تكنْ بهذا الجمال من قبل./ مع هذا.. الجندي القابع أسفلك/ يشدّ جذور…/ فيما دميته البكتيريّة تتعالى صيحاتها/ لو أمكنها فحسب لعق إصبعه المنصهر../ ليته يحنو/ ويدرك مشيئة الخلود/ في أصل نبتة”.

من الجليّ للقارئ المتمعّن قدرة الشاعر على بناء صورة مشهديّة كلّيّة، تنهض انطلاقًا من بؤر المجاز الجزئية، ومن تداعي صوره ليس على نحوٍ بنائي خطي؛ إنّما عبر آلية تجريدية تموّه باستمرارٍ الخيط الشفيف الموارب للدلالة، وهي تنوس في تباعدات المعنى، وتتأرجح على امتداد المشهد الكلي بلا هوادة. قال الشاعر في قصيدة (آخر سمكة): “أحاول أنْ أفهم لساعاتٍ/ سبب وقوع آخر سمكةٍ/ من أصابع الصياد/ التي هي حسب الشاهد/ (آخر خمس لفافاتٍ من تبغ كاز سريع الاشتعال)/ أشكالٌ باهتةٌ يشكّلها الزمان المنقبض/ خلف السّمكة الشفافة ذاتها/ ذلك الذي يختبئ بعدها../ تحت كفّ قدر”.

إن تعليق الدلالة، وترك المتلقي يلهث خلف اللعب الحرّ للعلامات، يتأسّس على فجوات توتّر تنزاح فيها باستمرار الذات الشاعرة الوقائعيّة، نحو فخاخ إغواء الذات الشعرية الافتراضية، وانفلاتاتها الجمالية التي تبسط روحًا تأملية تخلّف وراءها منطق الثنائيات التقليدية كالذات والعالم، أو الحضور والغياب، أو الحقيقة واللّاحقيقة، لتغوص القصائد -عبر حنكةٍ شعرية تنزع ألفة أساليبها الوجودية- في تقليبٍ تأويلي مجازي لأسئلة الحياة والموت والخلْق، مع ملاحظة الانضباط الحذر لهذا المنحى التأملي، في مواجهة خطر السقوط في نزعة ميتافيزيقيّة بحتة. قال الشاعر في قصيدة (الماء وحده يكفي): “الماء وحده يكفي لقتل نملة/ وتجويع سكّرها../ النملة وحدها من تملك الرواية الصّحيحة/ لقصة الرجل الأول على الأرض/ تسكن شعْر إصبع قدمه/ التي لا يضعها في النهر/ وتأكل من فاكهة إبطه سكّرًا/ أكانتْ مياه النّهر مالحةً؟”.

لا ينجو تبطين المشهديّة -انطلاقًا من بؤرها التوترية الجزئية وصولًا إلى صورها الكلية- بالصوت التأملي العميق، من مسحةٍ اغترابية تستمد حركيتها المجازية من الالتباس المحكم الناجم عن تغييب الذات الشاعرة الوقائعية، في أساليب حضور الذات الشعرية الافتراضية، حيث تتحرّك الأسئلة التأملية المشبعة بروح الاغتراب بين السطح البصري الخارجي المحتفي بالفنتازيا الغرائبيّة والسريالية، المنطوية على بحّة عدمية مواربة وماكرة، والسطح البصري العميق المحتفي بمناخات سوداوية، لا تكاد تومض حتى تهرب من جديد في عتمات المجاز والرّمز والجمال الحزين. قال الشاعر في قصيدة (فكرة): “كم شجرة تفّاحٍ نبتتْ/ فوق رأسك..؟/ أنت لا تملك/ إلّا../ أنْ تكون فكرةً في ذاكرة/ تجرّ الغروب الأعمى، إلى معقله/ هناك حيث يسْرح غروب اللّيلة الماضية/ وهو يأكل تفّاحاتك..”.

وهكذا، تأتلف مجموعة تقنيات لغوية/ وجودية، في ديوان (محمد يويو) هذا، لتخليق مناخات اختلافية متحررة من المسبّقات الوقائعية والمعرفية إلى حدّ كبير، وغارقة في مغامرة الانفتاح على المجهول، وهو الأمر الذي لا يكفّ في عوالم النصوص، عن توليد أساليب وجود شعريّة لها فرادتها وخصوصيتها، ولا سيّما بما ينطوي عليه ذلك من قوّة معنًى تكاد تتضاعف في كلّ مقاربة جديدة، مربكةً القارئ كلما غدر المجاز المكثّف بأفق توقّعه، لأقول أخيرًا، بنوعٍ من التفاؤل، إنّنا أمام شاعرٍ يُنتظر منه الشيء الكثير مستقبلًا.




المصدر
مازن أكثم سليمان