حين يكون المثقف حرًّا

12 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
9 minutes

[ad_1]

لم يكن ما طرحته الثورة السورية خصوصًا، والوضع السوري الناتج عنها في مجمله، من أسئلة على المثقفين العرب والسوريين منهم بوجه خاص، يختلف في قليل أو كثير عما طرحته أوضاع مماثلة في بقاع أخرى من العالم، وفي فترات متباينة شهدها وعاشها عصرنا، منذ نهاية القرن التاسع عشر مع قضية دريفوس، مرورًا بالنازية والمسألة اليهودية، والستالينية ومعسكرات الاعتقال والأشغال الشاقة (الغولاغ)، وليس انتهاء بقيام دولة (إسرائيل) واعتمادها دولة غير خاضعة لضرورات القانون الدولي في حقوله جميعًا. كان جوهر هذه الأسئلة يتمثل في معنى الحرية وفي معنى ممارستها. ويستطيع كل من يعود إلى أدبيات هذه الفترات أن يتحقق كيف تجسد هذا المعنى لا تعريفًا فحسب؛ بل ممارسة بكل ما كان يؤدي إليه ذلك من عنت ورفض وجدال ونزاعات.

كان الفيلسوف الألماني كانط يرى -مستعيدًا ما قاله أفلاطون من قبل- أن الفلسفة ليست معرفة كل شيء، بل هي معرفة الذات بوصفها مبدأ مقاربة الحرية. بذلك، يضع الفلسفة نفسها لا في إطار التفكير التجريدي بل في إطار الممارسة والفعل، بما أن مفهوم الحرية نفسه لا يتجسد جوهرًا ومعنًى إلا في الفعل، وفي حمل الأعباء التي تؤدي إليها نتائجه.

أكثر الأمثلة دلالة على طريقة مقاربة الحرية، من خلال ممارستها ضمن هذا المفهوم، مثلان شهدتهما الفترة المشار إليها. أولهما قضية دريفوس والموقف الذي اتخذه الروائي الفرنسي إميل زولا، والثاني السياسة الصهيونية في فلسطين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ومناهضة الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة آرانت للمشروع الذي كانت هذه السياسة تستهدف تحقيقه في فلسطين.

المثل الأول: في عام 1894، اتُّهِمَ ألفريد دريفوس، الضابط في الجيش الفرنسي، بالتجسس، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالتجريد من الرتبة العسكرية، وبالنفي إلى جزيرة إبليس. وقد تبين بعد سنتين من الحكم أنه بني على وثائق مزورة، وأن ضابطًا آخر (إسترهازي) كان هو المذنب الحقيقي. ومع ذلك، حوكم هذا الأخير، وأعلنت براءته في حين أعيدت محاكمة دريفوس وثبتت إدانته. وهو ما دفع إميل زولا إلى كتابة رسالته الشهيرة المفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، نشرتها جريدة (الفجر) التي كان السياسي الفرنسي كليمنصو قد أسسها، يوم 13 كانون الثاني 1898 تحت عنوان اختاره كليمنصو نفسه: “إني أتهم!”. رسالة جاءت في صورة مرافعة كثيفة وطويلة، احتلت صفحتين من صفحات الجريدة على ستة أعمدة، بدأها زولا مذكرًا بظروف القضية واكتشاف الملف وإدانة دريفوس، ثم اكتشاف المذنب الحقيقي؛ وبالتالي خيانة القائد إسترهازي وتبرئته المخزية، منتهيًا إلى اتهام وزير الحربية، وضباط هيئة الأركان، والخبراء الذي استدعتهم المحكمة خلال محاكمة إسترهازي، بوصفهم مسؤولين جميعًا عن إدانة بريء وتبرئة مذنب. اعتبرت هذه الرسالة/ المرافعة صرحًا أدبيًا، بما تضمنته من معلومات صحيحة ودقيقة. لكن هذه الرسالة التي أثارت ضجة هائلة في الأوساط السياسية والشعبية أدت بكاتبها إلى قيام الحكومة بملاحقته وملاحقة الجريدة. سوى أن هذه الملاحقة التي أدت إلى إدانته يوم 23 شباط 1898 أثارت دعاية إعلامية مذهلة نتج عنها انقسام الجمهور، بين مؤيد ومناهض لدريفوس، وكشفت في الوقت نفسه للعالم ما كان يحيط بالقضية من عبث وتزييف، وسببت أزمة سياسية وأخلاقية لم تنته إلا بإعادة الحكومة الفرنسية الاعتبار إلى دريفوس عام 1906.

من الواضح أنه لم يكن سهلًا على إميل زولا أن يتخذ هذا الموقف القاطع والجريء، في وجه حكومة بلده وكافة قياداتها العسكرية والسياسية. لكنه فعل ذلك بأسمى معنى للحرية، كما عناها كانط نظرًا وفعلًا.

المثل الثاني: في عام 1944، كتبت حنا آرنت نصًا تاريخيًا وسياسيًا حول جوهر الصهيونية، تضمن نقدًا عنيفًا لسياسة المنظمة الصهيونية التي باتت شديدة الوضوح آنذاك في فلسطين. اقترحت النصَّ في البدء على مجلة كومنتري (Commentary) التي رفضت نشره بحجة إمكانية اتهامها -هي اليهودية- بالعداء للسامية! لكن مجلة مينورا جورنال (Menorah Journal ) نشرته في تشرين الأول من ذلك العام، تحت عنوان: إعادة النظر في الصهيونية، وقد كان هذا النصُّ مؤسِّسًا لبحوث أخرى قادتها إلى كتابها (أصول الشمولية). يقدم مجمل هذا البحث وصفًا لفشل الصهيونية، بوصفها حركة تحرر ضلت طريقها وغرقت في مستنقع الواقعية السياسية، ونقدًا للقرار الذي اتخذه أكبر قسم من المنظمة الصهيونية العالمية، مطالبًا بأرض يهودية حرة وديمقراطية، تتضمن كل أرض فلسطين بلا تقسيم. فقد رأت أنه يؤلف ضربة قاصمة للأحزاب اليسارية التي ناضلت، من أجل التفاهم بين العرب واليهود، وأنه يعزز سياسة ورؤية بن غوريون؛ ورأت في السياسة التي تتبعها المنظمة الصهيونية في فلسطين سياسة انتهازية ومتناقضة وغير منطقية إزاء العرب الذين عاشوا ولا يزالوا يعيشون على هذه الأرض، وانتهت إلى أنه لا يمكن للمشروع الصهيوني أن يوجد إلا إذا قبل العرب؛ ذلك أن الحكومات -كما أشارت- تمضي لكن الشعوب تبقى، وأنه يكفي النظر في الخريطة كي يتبين المرء استحالة استمرار وجود دولة يهودية في فلسطين بمعزل عن قبول مسبق من العرب، وإلا كان وجودها قابلًا للانهيار.

وفي السياق نفسه، وباسم محكمة الذاكرة، تلاحق حنة آرانت الصهاينة، وتعدّهم مسؤولين ومتهمين بجريمة التعاون مع هتلر اعتبارًا من عام 1933. وكان لديها من الشجاعة ما حملها على التذكير بهذه المفاوضات بين الصهاينة والمسؤولين النازيين، التي بدأت غداة وصول هتلر إلى السلطة، وقامت على مصالح مشتركة: فهتلر يريد اليهود خارج ألمانيا، والصهيونية تريدهم في فلسطين. أدت هذه المفاوضات إلى اتفاق رأى فيه بعض اليهود أنفسهم اتفاقًا يقوم على “بيع الأمة اليهودية نفسها لقاء أجرة عاهرة”. بهذا التذكير بالذات، وفي الوقت الذي كانت تحظى بدعم الجميع في العالم، شككت حنة آرانت بطبيعة الحركة الصهيونية ذاتها، وبفشلها الكامل كحركة تحرر.

بسبب هذه المواقف الصارمة التي تعبّر عن المعنى الأعمق للحرية؛ فقدت حنة آرانت معظم صداقاتها الحميمة أو علاقاتها مع أقرب الناس إليها. حاول الجميع ثنيها عما كتبته، بل إن أحدهم طالبها باعتذار رسمي وعلني، عما كتبته بوصفه “جريمة بحق اليهود”، لكنه مع ذلك لم يصل إلى اتهامها بمعاداة السامية. ولا تزال كتاباتها حول هذا الموضوع موضع نقد شديد، وتأويل يتعثر في تبرير حججه أمام صلابة القيم التي اعتمدها خطابها في الأساس.

كما نرى، يقدم كل من إميل زولا وحنة آرانت -وسواهما كثير في أوروبا وفي الولايات المتحدة- مثلًا على الكيفية التي يمارس فيها المثقف حريته الكاملة التي لا تكتسب معناها إلا حين يعتمد في مواقفه قيمًا إنسانية، وعلى شجاعة أخلاقية ضرورية لكي يواجه بمواقفه هذه ضروب الاستنكار والرفض على صعيد الجماهير، أو الملاحقة القضائية والإدانة على صعيد السلطات الرسمية، أو كلاهما معًا. ولعل هذا المعنى بالذات، وهذه المواقف الصلبة القائمة على القيم الأساس في الحياة الإنسانية، هو ما كانت الثورة السورية بأمسِّ الحاجة إليه في سنواتها الماضية. لا يعني هذا الحديث المثقفين الذين اكتشفوا انتماءاتهم الطائفية، مع خروج الشعب السوري ضد النظام الأسدي. إذ إنهم، بهذا الاكتشاف -وأيًا كانت قيمة إبداعاتهم- إنما خانوا دور المثقف كما يقدمه المثلان السابقان. أما الآخرون، فقد تشابه على الكثير منهم دور المثقف ودور السياسي ودور الأجير، فقاموا، حسب كفاءاتهم الانتهازية، بالأدوار الثلاثة معًا، أو بدور المثقف الذي طغى عليه دور السياسي؛ فأفقدوا الدور الأول معناه، أو بدور الأجير حين لم يكن على وعي بدور المثقف أو بدور السياسي. وربما وجب أن يجري الحديث بتفصيل أكثر عن هذه الأدوار التي شهدتها الثورة السورية، خلال السنوات الأخيرة.

بدر الدين عرودكي
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون