عن حق تقرير المصير



حدثني أحد الأصدقاء الكرد العراقيين أن عناصر نقطة التفتيش، على الطريق البري الواصل من كركوك إلى أربيل، حاولوا عرقلة دخوله أربيل، لأنه لا يحسن التكلم بالكردية. ذلك أن أمه عربية، وعاش في منطقة عربية، ودرس في مدارس وجامعات، لغة التدريس فيها عربية. (لكي يدخل العراقي العربي إلى أربيل عليه أن يحصل على بطاقة ذكية أمنية محددة).

تساءلت: هل لمثل هذا الصديق الكردي حق في تقرير المصير؟ وماذا عن عشرات آلاف الأكراد السوريين الذين استوطنوا دمشق أو حلب أو غيرها من المدن السورية، منذ قرون، وعاش أجدادهم بين السوريين العرب، ولم يعرفوا سوى اللغة العربية والثقافة العربية؟ يحيلنا السؤال إلى تاريخ نشوء حق تقرير المصير، والمقاربات المختلفة لهذا الحق.

ظهر مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، على النطاق الدولي، مع بداية القرن العشرين في مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون، نهاية الحرب العالمية الأولى؛ بغرض معالجة أوضاع الشعوب والأمم التي كانت خاضعة لإمبراطورية المجر والنمسا والإمبراطورية العثمانية. وفيما بعد كان هذا المبدأ أساس المطالب المناهضة للاستعمار، بمعنى الدعوة إلى إلغاء السيطرة الأوروبية الاستعمارية على أفريقيا وآسيا. وتفاوتت مقاربات هذا المبدأ خلال الفترة التي تلت الحرب المذكورة، إذ اتضحت الإشكالية الكامنة في تطبيق مبدأ حق تقرير المصير، في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، وتمثلت تلك الإشكالية في أن قبول جميع المطالب بحق تقرير المصير قد هدد بتقسيم أوروبا إلى دويلات صغيرة، وخلق المزيد من الحدود السياسية التي تحول دون العبور الحر للناس والبضائع. واستمرت المقاربات المختلفة إلى أن تمت الإشارة إلى “مبدأ الحقوق المتساوية وتقرير المصير للشعوب”، في المادة 1، الفقرة 2، والمادة 55 من ميثاق الأمم المتحدة، ثم في القرار الصادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1952، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي أوصى بأن “على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وجوب الالتزام بحق تقرير المصير لكل الشعوب والأمم”.

ومن التتبع التاريخي لممارسة لهذا الحق؛ يجد المرء أنه ارتبط بمنح حق تقرير المصير للشعوب غير المستقلة، والشعوب المطالبة بالحكم الذاتي، والشعوب التي كانت خاضعة لنظام الوصاية، إي الشعوب التي كانت خضعت للاستعمار أو لنظام الوصاية التي عملت به عصبة الأمم.  لكن المسألة التي تظل موضع جدل هي: ماذا يعني مصطلحا: “الشعب” و”الأمة”، اللذين لهما هذا الحق؟ ومتى يجب دعم هذا الحق أو عدم دعمه؟

في الإجابة عن السؤال الأول، ودون الدخول في تفاصيل النظريات القومية والعوامل التي تشكل الأمة، نؤكد أن الأمة ليست معطى ناجزًا، بل تتشكل تاريخيًا عبر عدد من العوامل، لعل أبرزها اللغة المشتركة والثقافة المشتركة، لكنها لا تكتمل إلا بنشوء الدولة. فالدولة-الأمة هي التي توحد الشعب وتوحد السوق وتعزز الثقافة المشتركة. غير أن التاريخ المعاصر للشعوب لم يسر بهذا الخط دائمًا؛ إذ إن هناك دولًا تشكلت من عدة قوميات، وهناك قوميات (أمم) تجزأت إلى عدد من الدول.

من هنا تأتي أهمية السؤال الثاني: متى ينبغي دعم حق تقرير المصير؟

لعلنا نجد أوضح إجابة عن هذا السؤال في كتاب لينين (حق الأمم في تقرير مصيرها) الصادر عام 2014. يقول لينين: “… فإذا أردنا أن نفهم معنى حرية الأمم في تقرير مصيرها دون أن نتلاعب بالتعريفات القانونية، ودون أن نخترع تعريفات مجردة، بامتحان شروط الحركات القومية التاريخية والاقتصادية؛ فلا بدّ أن نصل إلى النتيجة التالية: إن المقصود بحرية الأمم في تقرير مصيرها هو الانفصال السياسي لهذه الأمم من الهياكل القومية الغريبة، وتشكيلها لدول قومية مستقلة”. والدولة القومية -عند لينين- هي تلك التي عملت الرأسمالية على إنشائها. ففي العالم كله كان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترنًا بالحركات القومية. ذلك لأن الانتصار الكامل للإنتاج السلعي يتطلب استيلاء البرجوازية على السوق الداخلية وتوحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة، وإزالة كل حاجز من شأنه أن يعوق تطور تلك اللغة ورسوخها، “ذلكم هو الأساس الاقتصادي للحركات القومية”.

وعلى الرغم من أن لينين يقر بحق جميع الأمم في تقرير مصيرها، إلا أنه يضع القضية في إطارها التاريخي، بحيث تؤخذ بالحسبان الخصائص الملموسة التي تميز حالة ما عن سواها في حدود حقبة تاريخية معينة. الأمر متعلق بمطلب تقرير المصير، إن كان يدفع باتجاه التقدم الاجتماعي للشعب أم يعرقل ذلك التقدم. وقد رأى لينين أن تطور الرأسمالية والمستوى الثقافي العام هما في حالات غير نادرة أكثر تقدمًا في الأقاليم غير الروسية الواقعة على الأطراف منها في وسط البلاد، “وأن القوميات المضطهدة المظلومة القاطنة في أطراف روسيا (مثل الفنلنديين والسويديين والبولونيين والأوكرانيين والرومانيين) ترى في كثير من الحالات، القاطنين في الجانب الآخر من الحدود أبناء قومها يتمتعون باستقلال قومي أوسع مما تتمتع به هي”. وهذا بالذات ما “يفرض علينا بإلحاح عظيم أن نعترف في المرحلة التي نجتازها بحق الأمم في تقرير مصيرها”. لقد كان انفصال القوميات “المضطهدة المظلومة” عن روسيا، وتقرير مصيرها (بالانضمام مثلًا إلى أقوامها المجاورة) في مصلحة تقدم تلك الشعوب، ولذلك ينبغي دعم حقها في تقرير المصير.

وقد سخِر لينين من روزا لكسمبورغ التي طالبت الاشتراكيين الديمقراطيين الروس بالجواب بـ “لا أو نعم”، على قضية انفصال كل أمة، بصورة عامة، بغض النظر عن نتائج مثل هذا الانفصال. فالأمر عنده متعلق بمسألتين: الأولى، هل الأمة التي تطالب بحق تقرير المصير مضطهَدة من قبل أمة ظالمة؟ (كما كان حال القوميات المضطهدة من قبل روسيا)، والثانية، هل سيؤدي الانفصال (أو الاتحاد أحيانًا) إلى تقدم الأمة المنفصلة، وهل سيساعد ذلك نضال الطبقة العاملة من أجل تحقيق أهدافها أم لا؟

ولعل أهم ما جاء في كتاب لينين المذكور، التأكيد المتكرر على رفض اضطهاد شعب لشعب آخر: “فما دامت برجوازية الأمة المقهورة تناضل ضد الأمة المتسلطة؛ فنحن معها دائمًا وأبدًا في جميع الظروف بعزيمة تفوق تأييد الآخرين جميعًا؛ لأننا ألد أعداء الاضطهاد نكافحه بجرأة وثبات، وما دامت برجوازية الأمة المستضعفة تعمل في سبيل تعصبها القومي البرجوازي، فنحن ضدها. أي إننا نقاوم امتيازات الأمة المتسلطة الظالمة وأعمالها العنيفة من جهة، ولا نتسامح مطلقًا مع سعي الأمة المستضعفة وراء الامتيازات من جهة أخرى”.

لعلي أضيف هنا، أن المرء يرجع إلى انتماءاته ما قبل الوطنية، عندما يتعرض للظلم والاضطهاد؛ ولهذا عاد كثير من السوريين إلى انتماءاتهم الطائفية أو الإثنية أو العشائرية أو المناطقية… لأن السلطة التي حكمتهم لم تعاملهم كمواطنين متساوين في الحقوق، بل اضطهدتهم وعذبتهم ونهبت نتاج عرَقهم. وهذا ينطبق على أكراد العراق وأكراد سورية، كما ينطبق على العراقيين والسوريين الآخرين من مختلف المذاهب والإثنيات. القوميات والأقليات في دولة ما تطالب بتقرير المصير (أي الانفصال)، عندما تشعر بالظلم والاضطهاد وانتقاص حقوق المواطنة. والدولة الديمقراطية التي تضمن المواطنة المتساوية هي وحدها التي يتمسك بها جميع المواطنين.


خضر زكريا


المصدر
جيرون