فزغلياد: “سيد الشرق الأوسط الجديد”



الصورة: سيرغي غونييف/ وكالة ريا نوفوستي

في خريف عام 2017، وجدت روسيا نفسها في وضعٍ فريد. فعلاقاتها متينةٌ مع جميع الدول الأربع المركزية الرئيسية في الشرق الأوسط. وتكمن المشكلة في أن هذه الدول لا تكنّ الود لبعضها البعض.

قبيل زيارة الملك سلمان لموسكو، ظهرت على موقع وكالة Bloomberg الأميركية مقالةٌ لهنري ماير و دونا أبي ناصر، تحت عنوانٍ مثير: “بوتين يملأ الفراغ في الشرق الأوسط“.

جاء في المقال: “(إسرائيل) وتركيا، مصر والأردن جميعها تشق طريقها إلى الكرملين على أمل، أنْ يستطيع سيد الشرق الأوسط الجديد فلاديمير بوتين، الدفاع عن مصالحها وحل مشكلاتها”.

يتفق دينيس روس، أحد أبرز الوسطاء الأميركيين إلى الشرق الأوسط، مستشار الرؤساء جورج بوش الأب، كلينتون وأوباما، مع خبراء الوكالة، ويقول: “لقد غيرت العملية العسكرية الروسية في سورية الوضع، وغيّرت موازين القوى على الأرض. ونجح بوتين في تقوية دور روسيا في الشرق الأوسط؛ ولهذا نشهد سيلًا لا يتوقف من الزائرين القادمين من المنطقة في موسكو”.

يعود هذا النجاح الجيو-سياسي الروسي جزئيًا إلى تراجع النفوذ الأميركي؛ إذ بدأت الولايات المتحدة الأميركية في عهد أوباما بالانسحاب تكتيكيًا من الشرق المنطقة، ليس عسكريًا فحسب، بل سياسيا أيضًا. والحروب التي بدأتها واشنطن في المنطقة عام 2001، أصبحت لا تحظى بشعبيةٍ في أوساط الناخبين الأميركيين؛ الأمر الذي يأخذه البيت الأبيض والكونغرس بالحسبان. غير أنَ روسيا عززت نفوذها، بتواصلها ليس فقط مع الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، فموسكو لم تقبل اعتبار إيران من دول محور الشر، وأقامت معها علاقاتٍ ودية.

لما ساءت كثيرًا أمور الرئيس بشار الأسد؛ دخلت روسيا، في البداية، وسيطًا في الصفقة المتعلقة بترسانة دمشق من الأسلحة الكيماوية، ومن ثم، بعد مرور عامين، وقفت موسكو إلى جانبه، وأرسلت قواتها الجوية وقوات العمليات الخاصة. كما شاركت موسكو في المباحثات السداسية حول برنامج إيران النووي، والذي بفضله رُفع جزءٌ من العقوبات المفروضة على طهران مقابل تخليها عن تصنيع القنبلة النووية.

عندما بدأت إدارة أوباما تطبيق سياسة “الانفراج الإيراني”؛ بدا أن واشنطن على وشك بسط نفوذها على كامل المنطقة، وأن طهران ستنضم إلى قائمة زبائن الولايات المتحدة الأميركية. وكان من الممكن أن يحدث ذلك، لولا ظهور خطرٍ جديد في الشرق الأوسط: “الدولة الإسلامية”.

كان باراك أوباما ومحركوه ميالين إلى تقليص حجم هذا الخطر، وكانت لديهم الدوافع لذلك، فالكثير من تصرفات الولايات المتحدة الأميركية ساهمت في ظهور هذا التنظيم الإرهابي الضخم. ولكن سرعان ما اتضح أن حلفاء الولايات المتحدة على الأرض قليلون. فالجيش العراقي الذي استثمرت فيه واشنطن مليارات الدولارات، لم يكن يتمتع بقدراتٍ قتالية مهمة. ووقعت، بكل بساطة وسرعة، ترسانة الجيش العراقي التي أرسلتها الولايات المتحدة، في يد “تنظيم الدولة الإسلامية”.

ما إن وصل المتطرفون الإسلاميون إلى سورية، الحليف الأقرب لطهران؛ حتى بدأت إيران التي تتمتع  بنفوذٍ هائلٍ في أوساط المسلمين الشيعة بلعب لعبتها الخاصة، ليس فقط دفاعًا عن الأسد، بل لبسط نفوذها في العراق أيضًا.

لم يكن بمقدور واشنطن القبول بهذا الدور الإيراني، فوضعت حدًا لما سمي “الانفراج الإيراني”. من جانبٍ آخر، لم تستطع (إسرائيل) والسعودية أنْ تغفر لأوباما رفع العقوبات عن إيران، وهذا بدوره ساهم أيضًا في إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة.

على الرغم من خطاب إدارة ترامب العنيف المعادي لإيران، فإنها لم تتمكن من إحداث تغييراتٍ مهمةٍ في سياستها الشرق أوسطية. ومع ذلك، بقيت الاتصالات مستمرة على المستويات العليا مع (إسرائيل) والمملكة العربية السعودية، كما سوّيت المشكلات مع تركيا بشكلٍ أو آخر. وكل ذلك جرى من دون تقديم تنازلاتٍ جدية، تجاه العلاقة بأنظمة طهران ودمشق.

خريف عام 2017، وجدت روسيا نفسها في وضعٍ فريد، فعلاقاتها متينةٌ مع جميع الدول الأربع المركزية الرئيسية في الشرق الأوسط، وتكمن المشكلة في أن هذه الدول لا تكن الود لبعضها البعض. فهي تتصارع فيما بينها منذ عقودٍ من الزمن. وقد أصبح هذا الصراع أكثر حدة مع هدم الدولة العراقية، وبدء الحرب الأهلية في سورية.

المواجهات الإقليمية السياسية، وأحيانًا العسكرية، تذكر باللعبة الهندية القديمة (تشاتورانغا) -وهي لعبة شطرنج يشارك فيها أربعة لاعبين- فالسعودية قلقةٌ من ازدياد نفوذ إيران التي تقترب من إقامة “الهلال الشيعي” الممتد من الخليج إلى المتوسط.

السعوديون يتدخلون صراحةً في شؤون العراق لمواجهة جهود إيران والمجموعات الموالية لها، كما أنهم يصرون على إسقاط بشار الأسد، وعلى إقامة حكومة ائتلافية في سورية، تمثل مصالح الأغلبية السنية، كما يأملون.

إيران من جانبها لم تقصر. فطهران تدعم المتمردين الحوثيين الذين يحاربون الرئيس هادي الموالي للسعودية. وعلى الرغم من الضربات الجوية المتواصلة التي تشنها الرياض، ما يزال الحوثيون يسيطرون على القسم الأكبر من البلاد؛ ما يشكل تهديدًا مستمرًا للسعودية من الجنوب.

أما تل أبيب فغير راضية عن الاتفاق النووي الإيراني، وحانقة من دعم طهران لـ (حزب الله) اللبناني الذي سبق له أن دخل في صداماتٍ مسلحة عديدة مع (إسرائيل). حاليًا، وحدات الحزب الضاربة مشغولةٌ بالمعارك في سورية، حيث تواجه “تنظيم الدولة الإسلامية” وغيرها من المجموعات السنية المتطرفة. ولكن ماذا سيحدث عندما سينتهي أمر الإرهابيين في سورية؟ دأبت القيادة الإسرائيلية على التأكيد أن (حزب الله) يتلقى عبر سورية الأسلحة الإيرانية المتطورة، وأن هذه الأسلحة ستوجه قريبًا ضدها، ولوقف تدفق هذه الأسلحة على الحزب، تقوم تل أبيب بقصف الأراضي السورية؛ وهو أمرٌ تعدّه دمشق عدوانًا عليها.

على الرغم من أن (إسرائيل) والسعودية تتمتعان بصفة حليف الولايات المتحدة الأميركية المميز في المنطقة، فإن بين الدولتين حسابات قديمة، تكمن في التناقضات في موضوع الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، لا يجوز إغفال التنافس القائم بينهما على دور القيادة في المنطقة.

لتركيا مصلحةٌ خاصة بوجود نزاعٍ شرق أوسطي كبير. وأكثر ما يقلق أنقرة هو تزايد قوة الأكراد نتيجة الحرب في العراق وسورية. وبالطبع، لم تكن تحركات تركيا، في المناطق الشمالية في العراق وسورية، منسقةً مع أي من هاتين الدولتين.

في الماضي القريب، كان لتركيا علاقات جيدة مع نظام بشار الأسد، ولكن، بعد انطلاق ما يسمى “الربيع العربي”، وانحياز حزب رجب طيب أردوغان إلى جانب الإسلام القومي، أصبحت تركيا تصر على تغيير السلطة في دمشق، وعلى كبح الوجود الإيراني. واستبدلت بسياسة ما يسمى “صفر مشاكل” مع الجيران، سياسةً توسعية “الشرق الأوسط الجديد”.

في عام 2012، أعلن وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو أمام البرلمان عن تغيير مسار السياسة الخارجية التركية: “ها هو شرق أوسطٍ جديد يولد، وستكون تركيا سيدة ورائدة وخادم هذا الشرق الأوسط الجديد”. من جانبٍ آخر، لا يخفى تعاطف أردوغان مع “الإخوان المسلمين” والمنظمات القريبة منه. وهذا يثير مصر و(إسرائيل). والأخيرة، وبهدف كبح التوسع التركي شرقًا وجنوبًا، تقوم بمساعدة الأكراد رسميًا لمواجهة “تنظيم الدولة الإسلامية”، الأمر الذي يثير حنق أنقرة.

من جانبٍ آخر، علاقات تركيا مع السعودية ليست على أحسن ما يرام. ومن المعروف، أن أحد مطالب الرياض من قطر، لحل الأزمة الدبلوماسية المستعرة، كان وقف التعاون العسكري بين الدوحة وأنقرة، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في الإمارة.

فقط تركيا وإيران استطاعتا خرق الحصار المفروض على قطر -بما في ذلك المواد الغذائية- ما ساهم بتخفيف التوتر بين أنقرة وطهران. تجلت إحدى نتائج هذا التقارب المفاجئ بمشاركة الدولتين في مفاوضات التهدئة في سورية بقيادة روسيا. ومع ذلك، لا يجوز الحديث عن تفاهمٍ تام متبادل بين القيادتين الإيرانية والتركية.

عمومًا، كل زعيمٍ إقليمي في المنطقة يلعب بنفسه ضد بقية اللاعبين، وبما يتناسب تمامًا مع قواعد لعبة الشطرنج الهندية (تشاتورانغا). كانت الولايات المتحدة الأميركية سابقًا، تتعامل مع هذه التشابكات المعقدة. أما الآن، فقد انتقل هذا الصداع إلى رأس موسكو، فالنجاحات الجيوسياسية تأتي، إلى جانب أكاليل الغار، بالمشكلات أيضًا.

عقدت الرياض مع موسكو صفقةً لشراء أسلحةٍ روسية، وأبدت استعدادها للاستثمار في المشاريع الروسية العملاقة، إضافة إلى إعلان الخارجية السعودية قرب رفع العقوبات عن بلادنا. كل هذا لا يجب النظر إليه، كاختراقٍ دبلوماسي فقط، فهو محاولةٌ من السعوديين للتصرف على طريقة “التقنية الأميركية” أي استخدام مصادرها المالية الهائلة لخلق مراكز ضغط “لوبي”، في عاصمة دولةٍ عظمى.

على الأرجح، تعوّل أنقرة، تل أبيب و طهران على “شراء” تعاطف روسيا. ليس بالضرورة بالمال، ففي جعبة هذه العواصم الكثير من الخدمات التي يمكنها أن تكون مدخلًا لـ “مقايضة سياسية”.

لكن حالة “سيد الشرق الأوسط”، تمامًا كمسألة خلق “لوبيات”، أمرٌ محفوفٌ بمخاطر جمة. فقد اعتادت (اللوبيات) أخذ الاحتياطات ضد المخاطر، وكذلك تنويع استثماراتها، وليس من المستبعد أن لا يقتصر “اللاهثون من الشرق”، على إبرام عقودٍ مع موسكو الرسمية، لأنهم سيحاولون الضغط على سياسيين آخرين.

تثبت تجربة الولايات المتحدة الأميركية أن هذه الطريق زلقة. فقد اتضح، حتى عام 2016، أن الصراع حول مسائل دوليةٍ حاسمة، كان يدور في الولايات المتحدة بين أناسٍ لا يمثلون المصالح الأميركية، بل مصالح “الأصدقاء الأسخياء”. وكان ذلك أحد أسباب خسارة المؤسسات الأميركية (establishment) الانتخابات لصالح أنصار الشعبوبة.

ختامًا، مهمة موسكو ليست بالسهلة، إذ إن عليها مُراكمة نفوذها في هذه المنطقة الحيوية وعدم الوقوع في مصيدة (اللوبيات) التقليدية. وهذه مهمةٌ تتطلب استخدام كامل مخزون المعرفة، المتراكم لدى طبقة الخبراء الروس. وربما يتطلب الأمر جمع معلوماتٍ حديثة على الفور، ليس عن الشرق الأوسط وحده، فلا ريب في ضرورة المعرفة عن أميركا التي يلعب في ساحتها منذ وقتٍ بعيد، كل هؤلاء “الباحثون عن الحقيقة” الآن في موسكو.

اسم المقالة الأصلية «Новый хозяин Ближнего Востока» الكاتب ديمتري دروبنيتسكي مكان وتاريخ النشر فزغلياد. 9 تشرين أول 2017 ربط المقالة https://vz.ru/columns/2017/10/9/890175.html

ترجمة سمير رمان
سمير رمان


المصدر
جيرون