نيويورك تايمز: مقاتلو داعش، بعد أن تعهدوا بالموت أو القتال، يستسلمون بشكل جماعي



نُقِل السجناء إلى غرفة انتظارٍ ضمن مجموعاتٍ مؤلفة من أربعة أشخاص، وطُلب منهم الوقوف أمام الجدار الخرساني، بحيث تلمس أنوفهم تقريبًا الجدار، وأيديهم مكبّلةٌ وراء ظهورهم.

مرَّ أكثر من ألفِ سجينٍ على أنهم من مقاتلو “الدولة الإسلامية”، من خلال تلك الغرفة، خلال الأسبوع الماضي، بعد فرارهم من معقل الحويجة العراقي المتهاوي. وبدلًا من الشهادة التي كانوا يتفاخرون بأنها مصيرهم الوحيد المقبول؛ استسلموا طواعيةً في مركز استجوابٍ للسلطات الكردية في شمال العراق.

بالنسبة إلى جماعةٍ متطرفة بَنَتْ سمعتها على التوحش، ومقاتلين يختارون دائمًا الانتحار على الاستسلام، كان سقوط الحويجة نقطةَ تحولٍ ملحوظة. وقال مسؤولون في الاستخبارات الكردية: عانت الجماعة من سلسلة هزائم مهينةٍ في العراق وسورية، غيرَ أنَّ أعدادًا كبيرة، على نحو غير مألوف، من قوات الاقتحام فيها، سلّمت أنفسها لمركزٍ للأسايش في الدبس، أي أكثر من ألف شخصٍ، منذ يوم الأحد الماضي.

استغرقت معارك الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، تسعة أشهر، وبالمقارنة، لم يستسلم سوى عددٍ قليل نسبيًا من مقاتلي “الدولة الإسلامية”. سقطت بعدها تلعفر، وبسرعةٍ أكبر، خلال 11 يومًا فقط. حيث استسلم فيها نحو 500 مقاتل.

طرد الجيش العراقي “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) من الحويجة خلال 15 يومًا، وكما قالوا، فهي لم تستغرق سوى ثلاثة أيامٍ من القتال الفعلي، قبل أنْ يفرَّ معظم المتطرفين وعائلاتهم. ووفقًا لمسؤولين أكراد، فإنهم لم يلاقوا أيَّ قتالٍ على الإطلاق، غير زرع القنابل والمفخخات. “كلما اقتربت منهم، فإن تظاهر المقاتلين بالشجاعة يختفي تقريبًا”.

ايفور بريكيت/نيويورك تايمز

انتُزعت أحذيتهم، وفُرغّت جيوبهم، ورُميتْ أحزمتهم، وبينما يقفون بمواجهة الجدار، كانت جلابيبهم ملطخةً، بدليل أنَّ بعضهم لم يدخل إلى مرحاضٍ منذ أيام. كانت رائحة أحدهم منتنةً للغاية، بحيث إنَّه عندما نُقل إلى غرفة الاستجواب الصغيرة؛ ارتعب من كان بداخلها. ملأ المدخل، باديًا حتى أكبر من حجمه الفعلي. فكَّ المحقق حافظةً على وركه، وقبض بيده اليمنى على مسدسه؛ وبدا الجميع في الغرفة خائفًا من الرجل، على الرغم من أنَّ يديه كانت مقيدةً وراء ظهره. كان شعره الأسود الكثيف بشعًا جدًا، ويصل إلى كتفيه، مع أنَّ خصلة من الشعر الأسود، من طرف ذقنه، تزيّن وجهه الوسيم.

“مرحبًا”، قال أحد الزوار. “أين لحيتك!”.. الدولة الإسلامية تطلب من كلّ الرجال أنْ يربّوا لحى كاملة. “عمري 21 سنة فقط، ولم تنمو لحيتي بعد”، قال، وهو محرجٌ بشكلٍ واضح.

سمح المحققون الأكراد للمراسل بمقابلة 12 من المقاتلين الذين استسلموا، عندما وصلوا إلى المقر الرئيسي للأسايش (جهاز الاستخبارات الكردية)، في مدينة الدبس، قرب الخطوط الأمامية للأكراد مقابل الحويجة، وراقب الضباط جميع المقابلات.

ادّعى العديد من المقاتلين أنَّهم مجرّد طهاةٍ، أو إداريين. وقال الكثيرون إنّهم أعضاءٌ جدد في “تنظيم الدولة الإسلامية”، ولم يبقوا فيه سوى مدة شهرٍ أو شهرين فقط، بينما يعتقد المحققون بأنَّهم تلقوا تدريبًا ليقولوا ذلك. غير آبهين بالرأي العالمي الذي كانت أشرطة الفيديو العنيفة المتتالية تثيره، والتي أُعدَّ الكثير منها في الحويجة، حيث القتل البشع، وبخاصة للسجناء الأكراد، كان السلوك الطبيعي طيلة ثلاث سنوات من سيطرتهم على تلك المدينة العربية السنيّة في شمال العراق. ومع ذلك، ادعى معظم السجناء أنَّهم لم يروا أبدًا قطع رأس، أو حتى سمعوا عن شيءٍ من هذا القبيل.

ايفور بريكيت/نيويورك تايمز

في البداية، بدا المقاتل من دون اللحية استثناءً، معترفًا بصرامة أنَّه كان يقاتل مع الجماعة لمدة عامين، جنبًا إلى جنب مع أفراد العائلة. أعطى بسهولةٍ اسمه: “ميثم محمد مهيمن”، وعمليًا يريد الكلام بسرعة. كانت يداه مقيّدتان خلف ظهره، ويجلس عليهما فعليًا، مرغمًا على الجلوس إلى كرسيٍّ بلاستيكيّ أحمر، إلا أنَّ الضباط الأكراد الثلاثة في الغرفة ظلّوا على مسافةٍ منه خشية أنْ ينقض على أسلحتهم.

خلال المقابلة، ازداد عصبية. وقال إنّه من الحويجة، وانضم إلى “تنظيم الدولة الإسلامية”، لأنَّه يؤمن بقضيته، ولأنَّ أخاه الأكبر كان في التنظيم، ولأنَّ مبلغ 100 دولار في الشهر كان أفضل من أيّ شيءٍ آخر.

كان قد وصل إلى (الدبس)، بعد ظهر يوم الخميس مع ثمانيةٍ من أصحابه، سبعة عراقيين، ومصري، بعد أنْ رموا أسلحتهم في الحويجة في ذلك الصباح. ومنذ بداية الهجوم العراقي قبل أسبوعين، قضوا معظم الوقت مختبئين في جحورٍ، تجنبًا للقصف الأميركي العنيف، وقذائف القوات العراقية المتقدمة، وأمضوا أيامًا من دون مَرافق صحية، أو طعام.

وأخيرًا، طلب والي “الدولة الإسلامية”، أو حاكم الحويجة، من الرجال أنْ يسلّموا أنفسهم إلى القوات الكردية المعروفة باسم (البيشمركة)، وأنْ يهربوا من الجيش العراقي المتقدم، وحلفائه من ميليشيات (الحشد الشعبي) الشيعية، المتعطشة لقتل ليس فقط سجناء “الدولة الإسلامية”، ولكن أيضًا عائلاتهم بأكملها.

قال مهيمن: “أخبرَنا الحاكم بأنْ يحلَّ كل منا مشكلته الخاصة، وأن يفتش عن حلٍّ خاص به”. وأضاف: “قال لنا: اذهبوا إلى (البيشمركة)، وليس إلى (الحشد)”. نفى السيد مهيمن حضور أيّ عملية قطع رأس، ولكن في وقتٍ لاحق، مدفوعًا من قبل ضابط استخبارات (الأسايش)، اعترف بأنَّه شاهد عمليةً واحدة، لأنّه أُمِر بذلك. وقال: “كنت خائفًا، ولم أرَ أيّ شيءٍ من هذا القبيل في حياتي”.

ايفور بريكيت/نيويورك تايمز

ملامحه قاتمة. كانت زوجته الحامل قد فرَّتْ إلى (الدبس) قبل أسبوع، ولكن من غير المرجّح أنْ يراها أو يرى طفلهما الأول المقبل، في أيّ وقتٍ قريب. قُتل أخوه الأكبر في المعركة. واختفى والده، وشقيقه الأصغر. ولأنّ والده من كبار السن، وأخوه صغير جدًا لم يبايعا “الدولة الإسلامية”.

وقال المحقق الملازم صلاحي: إنَّ السيد مهيمن ليس جنديًّا في “تنظيم الدولة الإسلامية” فحسب، بل هو أيضًا عضوٌ في فرقةٍ انتحارية معروفة باسم (طالبي الشهادة)، وفقًا لمعلومات المخبرين. وإذا أُدين من محكمة (الأسايش) على هذا الانتماء؛ فإنَّ عقوبته ستكون طويلة، وإذا كان ذا صلةٍ بأيّ عمليات قتل؛ فربما يبقى مدى الحياة.

اختلفت سردية السيد مهيمن. وقال: “كنت مجرّد جنديّ عادي”. وأضاف: “لم أقتل مدنيًا، ولم أذهب حتى إلى الجبهة”.  وبّخه الملازم. فردَّ السيد مهيمن: “حسنًا، ذهبت إلى الجبهة، مرتين، وليومٍ واحد، ولكن ليس ضد الأكراد”، عنفَّه أكثر، فقال: “مرةً ضد الأكراد، ولكن كنا نطلق النار من مسافةٍ بعيدة. لم أتمكنْ من رؤية أيّ شخص”.

ذُهل المسؤولون الأكراد من عدد المقاتلين الذين استسلموا، وقال العديد من المسلحين إنَّهم تلقّوا أوامر من قادتهم بتسليم أنفسهم إلى الأكراد الذين كانوا معروفين بأخذ الأسرى، بدلًا من قتلهم. لكن النقيب علي محمد سيان، رئيس محققي (الأسايش) في الدبس، قال: حتى إنَّ المقاتلين لا يبدو أنهم يعرفون لماذا كان قادتهم يخبرونهم بالانسحاب. وأضاف: “ربما صفقة، وربما مجرد معنوياتٍ سيئة. أنا لا أعرف”.

ولتحديد هوية المسلحين، قام ضباط الاستخبارات الكردية بالتقاط أشرطة الفيديو من الحويجة، مثل تلك التي تظهر سجناء (البيشمركة) في اللباس البرتقالي، في أقفاصٍ فردية على ظهر شاحناتٍ صغيرة، حيث يجري عرضهم خلال المدينة، ويُرمون بالحجارة، ثم يُحرقون أو تُقطع رؤوسهم في الأماكن العامة، بين حشودٍ بالآلاف.

بشكلٍ منفصل، يتم إخراج سجناء “الدولة الإسلامية” من غرفة الانتظار، لإجراء التحقيق معهم، يكررون القصة نفسها إلى حدٍّ بعيد. وقال رعد عبد الله أحمد (31 عامًا): “لقد بايعتُ (داعش) في كانون الثاني/ يناير 2015، وتركتها في آذار/ مارس”. تبرأت مني عائلتي في إثر ذلك، تخيّل أنْ تبقى من دون عائلة. غادرتُ التنظيم لأني لم أحب ما فعلوه مع الناس”.

وقال حسين جمال (21 سنة): إنَّه بايع “الدولة الإسلامية” عام 2014، لكنه لم يبقَ فيها سوى 45 يومًا. وقال أحد المحققين: “اسأله لماذا لم يتركه عاجلًا”. ردَّ جمال: “كنت خائفًا”. وقال محقق آخر: “اسألهم: لماذا هربوا بهذه الطريقة”. قال الرجلان: إنّهما على يقينٍ من أن ميليشيات (الحشد الشعبي) ستقتلهما، لكن الأكراد لن يفعلوا ذلك. قال أحدهم: “لمَ لا؟”، ردَّ أحمد: “إنَّهم أكثرُ تحضرًا مما نحن عليه، ويعرفون من هو جيدٌ، ومنْ هو سيئ”.

كان السيد مهيمن قد غاص مرةً أخرى في كرسيه الأحمر، بعد ساعةٍ من الحديث، وبدا أصغر بكثيرٍ عما قبل. وعندما سُئل: إن كان يعتقد أنّه سيرى زوجته ثانيةً، أو طفله الجديد، قال: “لا أعرف”، ونظر إلى الأرض. لم يرفع الملازم عينيه عنه مدة ثانية. وأضاف: “إنهم يخططون للعمل السري، وتكوين خلايا نائمة”.

هزَّ السيد مهيمن رأسه. وأضاف “هذه نهايةُ هذه الدولة”. كان بنطاله مبللًا، إضافة إلى الرائحة، ولكنه لم يطلب استخدام المرحاض، وقال: “أعتقدُ طالما أنَّ الأمراء طلبوا منا أنْ نستسلم؛ فهذا يعني حقًا أنَّ هذه هي النهاية”. وأقسمَ بالله إنَّه كان يقول الحقيقة.

اسم المقال الأصلي ISIS Fighters, Having Pledged to Fight or Die, Surrender en Masse الكاتب Rod Nordland، رود نورد لاند مكان النشر وتاريخه نيويورك تايمز، The New York Times، 8/10 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2017/10/08/world/middleeast/isis-iraq-surrender.html عدد الكلمات 1212 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون