إخاء الأديان

13 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
10 minutes

دليل الفطرة ودليل الفترة

لا يخلو مقالي اليوم من دوغمائية، ومن الواجب أن أقول إنني لم ألتزم فيه أحكام العقل المحض، كما كرسه إمانويل كانط بعد أن أيقظه هيوم من سباته الدوغماطيقي، وإنما هي مقاربة إيمانية فولتيرية، بوسائل الوحي الشريف، لبناء إخاء إنساني.

مصطلح “إخاء الأديان” الذي يبدو لي أكثر المصطلحات وضوحًا في رسالة الأنبياء، يبدو لأصدقائي من رجال الدين أكثر العناوين المزعجة والمستفزة، لأنه باختصار يسوّي بين الحق والباطل، ويطبخ شوربة الأديان!!

قناعتي أن النبي الكريم لخص رسالته في القرآن الكريم، في آية ذات دلالة، تكررت 14 مرة في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {مصدقًا لما بين يديه}. وقد وردت (مصدّقا ومصدّق وتصديق الذي بين يديه)، و”بين يديه” ليست مجرد ظرف زمان، بل هي كلمة عابرة للزمان والمكان، فتشمل النبوة السابقة والحكمة الصادقة والخبرة اللاحقة، وتشمل ما جاء من حكمة ونور في أرض العرب والعجم، ومن انتشر في هذه الأرض من الأمم.

ولا شك أن اختصار الإسلام، بأنه تصديق الأديان، يشمل معنى الإخاء وأزيد من معنى الإخاء بين الأديان وأتباع الأديان. ولكن هذه المعاني السهلة المبسطة تبدو -اليوم- مرفوضة رفضًا حادًا، في الذهنية الإسلامية الشائعة التي تقدمها -من دون توقف- ماكينات الخطاب الديني على منابر الجمعة والمحطات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي صريحة ومدويّة بتكفير الأديان.

وبات الخطاب المزاجي في الشارع المتدين يرفض بشدة مصطلح “إخاء الأديان”، بوصفه تسوية بين الحق والباطل، وبين الجلاد والضحية، وبين الشرف والانحطاط، “أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون”!!

وقد مارس الخطاب التقليدي هذا الرفض وتجاوزه، وشاع طوال عقود عديدة، حتى على منبر الحرم الشريف، اصطلاحُ “حرب الأديان”: اللهم عليك باليهود والنصارى، فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا… وهو خطاب كان نغمة ثابتة في خطبة الجمعة، ولم يتوقف إلا عبر قرارات سياسية صارمة، تشبه ما جرى في مسألة قيادة المرأة للسيارة قبل أسابيع.

هذا الدعاء اللئيم يوجهه مشايخنا فقط للأديان السماوية الأخرى، أما الأديان الأرضية -أو التي نسميها كذلك- فهي ليست أهلًا حتى للدعاء عليها على المنابر، وهي ليست إلا حثالة من عبّاد البقر لا حل معهم إلا بالنيزك أو عاصفة كعاصفة عاد وثمود، أو أن يخسف الله بهم الأرض، أو صيحة واحدة فإذا هم خامدون!!

لا أعتقد انني أبالغ في حرف واحد، في ما أرويه عن هذه المسألة التي أعدّها أهم نقطة في سقوط الأمة وضياعها وعجزها عن مواكبة الحياة. وسأقدم رؤيتي لإخاء الأديان من نقطتين، يمكن أن تشكّلا مشتركًا فكريًا حتى مع أصدقائنا من رجال الدين وحفظة كتاب الله ورجال الحديث والسنن.

النقطة الأولى هي الفطرة، والثانية هي الفترة.

في الفطرة يؤمن المسلمون جميعًا بأن الله تعالى خلَق الخَلق على الفطرة الأولى، وأن هذه الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها هي فطرة إيمان وتوحيد وحب للخير ونبذ للشر، والإجماع منعقد بأن فطرة الله، وروحه التي نفخها في الناس، هي طبيعة الإنسان وجوهره، وأنه لا يوجد في هذا الكوكب شخص واحد لم يُخلق بكلمة الله، ولم ينفخ فيه من روحه، ولم تستودع فيه فطرة الله.

إنها مسألة اتفاقية، وهي كفيلة بأن تبعث الحب والإخاء بين البشر، ولكن هذه الإرادة النبيلة لرسول الإسلام تتبدد، في نظر رجال الدين على أساس أن الناس يتركون فطرتهم، ويشوهونها ويتحولون إلى كافرين جاحدين محبين للشر كارهين للخير! وهذا التعميم فيه استهزاء حقيقي بالخالق سبحانه، واستهزاء بقيم الفطرة والروح التي نفخ بها عباده، حيث لم تصمد هذه الفطرة لشيء وانهارت عند أول امتحان، ومن أصل خمسة مليارات شخصٍ وُلد على غير الإسلام، انهارت هذه الفطرة فيهم جميعًا، وتحولوا إلى كفار مارقين، يستحقون جهنم وبئس المصير.

فما هذه الفطرة التي لا تصمد أمام شيء؟ وما هذه الروح الإلهية التي بعثها الله في عباده، ثم ينفخ فيها الشيطان نفخة؛ فيحيلها قاعًا صفصفًا؟! إن المسلم الذي يكفّر العالمَ كله، مدعوٌّ إلى أن يُساءَل وفق قاعدة الاستصحاب ومنع زوال اليقين بالشك. لقد أخبرنا القرآن بيقين أن روح الله وفطرته نفخت في خمسة مليارات إنسان من غير المسلمين، فهل تملك الأدلة التفصيلية على أن هؤلاء الأشخاص قد سُلبوا الفطرة التي فطروا عليها، وأن الشيطان قد سلح عليها وأبدلهم منها عارًا وشنارًا؟ قناعتي أن كل من يزعم ذلك مطالَبٌ بخمسة مليارات دليل، حتى يصبح موقفنا من تكفير العالم مبررًا، وفق شروط التوحيد التي ندرسها وندرّسها كل يوم.

الأصل واليقين هو إيمان الناس، وفق شرط الخلق والفطرة، وهذا اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول بالدليل والبرهان، ولا شك -عندي- أن الدليل والبرهان لا يزال ينقل عن الناس إيمانهم بخالق، وأننا لا نملك أدلة حقيقية إلا عن عدد محدود من أشخاص، صرّحوا بكفرهم بالخالق وتنكرهم للفطرة، و”جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا”، وتثبت الدراسات الإحصائية أنهم لا يتجاوزون 9.2 بالمئة في العالم.

وأما المبدأ الثاني الذي يبرر إخاء الأديان إلى جانب الفطرة فهو الفترة.

والفترة موقف عقائدي ذكي وحكيم، تخيره السلف الصالح للحكم على الأقوام الذين لم تبلغهم عقيدة التوحيد، على وجه يقطع كل شك، فهؤلاء يُسمَّون “أهل الفترة”، وعادة ما يقصد علماء الحديث والتفسير أن أهل الفترة بين المسيح وبين الرسول الكريم، إذ لم تكن في تلك الفترة نبوّة ولا كتاب، والأصل في هذه الفكرة هو النص القرآني الحكيم: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولٌ يبين لكم على فترة من الرسل}؛ فاعتبرت الفترة بين الرسل سببًا كافيًا لاحترام الناس، على الرغم من عدم إيمانهم، تأسيسًا على القاعدة القرآنية الشهيرة {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولًا}.

ذات يوم، خطبت في جامع الزهراء، وتحدثت عن أهل الفترة، وأخذتني الشجاعة؛ فقلت: إن أهل الفترة ليسوا فقط بنو عدنان وقحطان في الجاهلية، بل إن هناك آلافًا من الناس اليوم يعيشون في غابات الأمازون ومجاهل أفريقيا وأستراليا، خارج التاريخ والحضارة، وهم من أهل الفترة، ولا يجوز أن نصفهم بـ “الكافرين”.

حضر الخطبةَ المفكرُ الإسلامي جودت سعيد، وبعد الخطبة تحدث للناس، وقال: إن محمد حبش يقول: إن في غابات الأمازون ومجاهل أفريقيا قومًا من أهل الفترة لم يبلغهم الإسلام على وجه صحيح تقوم به الحجة! ثم التفت إلي، وقال مؤكدًا: “يا صاحبي، إن في لندن وباريس واليابان والصين.. بل في بلدك هذا وبلاد المسلمين ملايين لم يبلغهم الإسلام، على وجهٍ تقوم به عليهم الحجة والبرهان”.

أين هو الإسلام الذي قامت الحجة على وجوب اتباعه! وهل واقع المسلمين اليوم يمكن أن يقنع أحدًا بالإسلام! كيف سيتحول الناس عن أديانهم إلى الإسلام، ونحن أمة فاشلة متحاربة متباغضة، لقد أصبحنا من دون شك فتنةً للذين كفروا، وصار سلوكنا وجهلنا وتحاربنا يصدّ الناس عن سبيل الله!

لقد كان الدين موجودًا في جزيرة العرب، وكانت “صحف إبراهيم وموسى” يعرفها أهل العلم، وكانت التوراة “فيها هدى ونور” على ألسنة علماء أهل الكتاب، وكان الإنجيل “بشرى وموعظة للمتقين” يعلمه الذين يستنبطونه منه، {أولم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني إسرائيل}، ومع ذلك كله؛ لم تقم لله حجة على الناس، حيث لم يكن هناك مجتمع راشد يطبق هذه القيم، ويرى فيه الناس صورة ملزمة لهم بالدخول فيه، وترك ما يعتقدون، وفي هذا السياق اعتبرت الفترة بين الرسل سببًا كافيًا وكاملًا لقبول الناس والتوقف عن دفعهم لاعتناق الدين الحق.

الفترة مستمرة حتى قيام واقع إسلامي راشد، يحقق للناس نجاح الدنيا وسعادة الآخرة، والفترة مستمرة حتى ينهض فينا “محمدٌ” جديد يحقق للناس الكرامة والعدالة والمساواة، ويحرر العبيد والسبايا ويكرم المرأة ويمكّنها، ويزيح الاستبداد والقهر والظلم، حتى تصبح عواصم الإسلام هي محج الهاربين من الظلم والقهر في العالم، وتصبح العافية والكفاية والتكافل والتراحم هي صورة بلاد المسلمين، لا يجوع فيها جائع، ولا يهيم فيها ضائع، وليس فيها أحدٌ يبيت في داره شبعان وجاره إلى جنبه جائع، وهو يعلم.

وطالما ما زالت في الناس الفطرة، وطالما أن ظروف الإسلام هي ظروف أهل الفترة؛ فإن قيم الإيمان تدعونا إلى إخاء الأديان ومحبة الأبرار والأخيار في العالم، ورفض الأشرار من كل ملة ودين.

محمد حبش
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون