الفيلم الأمريكي «تمرد»… جنود المارينز ووهم إنقاذ العالم




يعيد الفيلم الأمريكي «تمرد» لمخرجه جو ميال، فكرة هيمنة الجيش الأمريكي ــ الرجل الأبيض ــ في القرن الإفريقي، عبر إرسال جنوده وبعثاته الطبية والصحافية لتحرير الأرض المحتلة.
بداية يمكن تأطير الفيلم ما بين أفلام الحركة والخيال العلمي، حيث يحكي قصة جندي أمريكي في كينيا يواجه كائنات فضائية تغزو منطقة القرن الإفريقي، فيدخل كل من الجنود الأمريكيين والأفارقة في مواجهة خطر محدق، يتمثل في غزو كائنات فضائية لها قدرة كبيرة على سحق البشر بقدرتها الهجومية وأسلحتها المتطورة، وتخلف وراءها آلاف القتلى والأسرى والكثير من الخراب والتدمير.

السرد السينمائي

عبر تقنية الفلاش باك يعيدنا المخرج جو ميال إلى أجواء الحرب، حيث يفقد الجندي «بو» (لي بايس) ذاكرته عبر تعرضه لانفجار قنبلة، فيجد نفسه محتجزا في زنزانة انفرادية وبجواره الطبيبة «ناديا» (بيرنيس مارلوهي) يتعرفان على بعضهما بعضا ويبدآن رحلة/سفر، إلى ما يقارب 470 كليومترا على الحدود الكينية ويواجهان خلالها الصعاب. وعبر عملية استرجاع الذاكرة لسلسلة من الأحداث التي واجهها، إضافة للمطاردة من الجنود الأفارقة والكائنات الفضائية الغريبة، المتسمة بالعنف والقوة.
يبرز الفيلم مآسي الأراضي الإفريقية تارة بالخراب المنتشر وتارة بالجفاف وتارة بما تجود به هذه الأرض المعطاء من خيرات. يوظف المخرج آلية الذاكرة في مسار السرد السينمائي ويضعنا في بانوراما كبيرة عما تتعرض له الأراضي الإفريقية من غزو متعدد، وهمه السيطرة بالقوة وبنوع من الإحكام على إفريقيا السجينة أراضيها وبشرها وحيواناتها التي تموت وتؤسر.

هوية مزيفة

يحاول المخرج منح الفيلم هوية الدفاع عن الأرض الإفريقية من الهجوم الكاسح والمباغت، لكن هذه الهوية تبدو هوية مزيفة بتساؤل بسيط عن فداحة برامج سباق التسلح، وصنع الأسلحة الفتاكة وتجريبها في الأراضي الإفريقية.. أراضي الجوع والعطش والمقهورين. فالفعل هنا فعل غزو مشفوع بالمساعدة العسكرية والطبية المقدمة من لدن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وهذا مجال تتفسخ فيه العلاقة بين الذات والموضوع، وما بين الحياة الشخصية للجندي والطبيبة والمقاتلين الأفارقة، تبدو الهوية المتباينة، باشتراك مجموعة من العناصر في الفعل نفسه وهو الدفاع عن النفس والأرض مع الحفاظ على ما يميزهم ثقافيا ومعرفيا واجتماعيا.
يسعى الفيلم عبر هذه الدلائل السردية إلى منح هوية تشاركية همها دحر الكائنات الفضائية في لعبة السرد المتوالية، التي تنكشف عبر استرجاع الجندي لذاكرته وبداية انكشاف العلائق المعقدة بين العدو والخصوم.

الموت والحب المستحيل

على الرغم من حالة الانجذاب بين الجندي الأمريكي والطبيبة ومحاولة إنقاذها أكثر من مرة، والسير لمسافات طويلة في اتجاه الحدود، يبقى حبهما مستحيلا ويبقى السائد في الفيلم هو الموت القابع في كل لحظة، سواء من الكائنات الفضائية التي اجتاحت الأرض الكينية، أو من طرف المقاتلين الأفارقة، الذين اختلط عليهم الأمر فصاروا ينظرون لكل شخص غريب عن الأرض على أنه مصدر هذه الهجمات. بدورها تموت الطبيبة، ويبقى الجندي بو الذي ينقد الأفارقة حياته وينضم إلى صفوفهم لمواجهة الكائنات الفضائية.

الآلة في مواجهة الإنسان

تتميز الكائنات الفضائية بقوة خارقة في القصف والتعقب عبر أشعة ضوئية، ويبدو الإنسان الإفريقي ضعيفا وشجاعا في مواجهة الأخطار التي تحيط به.
الآلة المدمرة والقاتلة إحالة ضمنية عما آلت إليه البشرية في سباق التسلح وبرامجــــه التي تعدت المعقول وأضحت فيها الشعوب المغلوبة على أمرها أرضا للتجارب.
هذه الكائنات التي تمتاز بقوة الرصد والخفة والتتبع والقتل السريع بدون رحمة، تتسق ضمنيا مع ما يعيشه القرن الإفريقي منذ سنوات من مجاعات وتهريب للأسلحة وتجارة البشر، والأفظع تجريب أسلحة محظورة في عولمة النزاعات السياسية في القرن الإفريقي، بتدخلات أجنبية لها مصالحها الاستراتيجية والمالية في هذه المنطقة.

المحتل والمنقذ

في مقارنة بسيطة بين المحتل والمنقذ في الفيلم، يصبح كل من الطبيبة والجندي والمقاتلين الأفارقة في خانة المنقذ، وتبقى الكائنات الفضائية في خانة العدو المدمر، هنا تنقلب الحقائق عما عليه على الأرض، ويبدو زيف الحقيقة يرتهن إلى الخيال في إشارة لتبيان ما تقوم به الطبيبة والجندي والمصور من مساعدات كبيرة يقدمونها للأفارقة، هي قوالب تخييلية لا تعكس حقيقة ما يقع على الأرض من وحشيات مقترفة تعيدها السينما عبر تزييف الحقائق وقلبها رأسا على عقب. لا يبرز الفيلم لماذا يقدم الجنود الأمريكان يد العون؟ وما غاياتهم في الأراضي الإفريقية؟ تقرأ صور الفيلم وشيفراته على عكسها، فالصور ليست فقط للحركة والمغامرات على الأراضي الإفريقية، ولكنها صور تمثل حجم الاستعمار الجديد الذي تعيشه إفريقيا وهيمنة دول قوية بأسلحتها وبصناعات قابلة للموت للسيطرة على خيراتها وثروات شعوبها وأرضها للصراع والتجاذب بين الدول القوية.

سينما الكائنات الفضائية

تعج السينما الهوليوودية بأفلام الكائنات الفضائية التي تعيد أغلبها إلى سباق التسلح المحموم، وبرامجه المستتر منها والمضمر، وما يجرب منها في الفضاء، هذه الكائنات الفضائية التي يوجهها في كثير من الأحيان الأشرار والباحثون عن السيطرة على العالم وتملك ثرواته، وفي أحيان أخرى التجارب العلمية التي تفشل في جزء منها وتنعكس بالمضرات وبكائنات هلامية لا ملامح لها تمنحها السينما صورة مقززة وبشعة، رغبتها الأولى والأخيرة القتل والتخريب والتدمير. وتتمظهر أحيانا في غزوها المفاجئ للأرض والسيطرة على العالم ومواجهتها من قبل العلماء والمقاتلين. في سينما الخيال العلمي لها هذه القدرة على تحويل اللاممكن إلى قوة فوق الأرض ومعجزة خارقة وتزييف الحقائق وقلبها بمسميات سينما الخيال العلمي، يبدو فيها الأبطال خارقين ولهم قدرة كبيرة على مواجهة التحديات والتضحية بأرواحهم في سبيل إنقاذ الأرض من الغزاة والمحتلين، الذين لا قلب لهم سوى السيطرة على كوكب الأرض.

«تمرد» وسينما الويسترن

تكشف مشاهد ولقطات فيلم «تمرد» عن بعد جمالي، رغم بشاعة القتل والدمار والخراب، فتبدو الأرض الإفريقية البكر حيث السهول والغابات والمساحات الخضراء الرائعة والوديان والمناظر الخلابة. لقطات بانورامية تحيل إلى جماليات سينما الغرب الأمريكي/الويسترن، مقابل مشاهد الحرب حيث العنف والقتل، في لقطات متوسطة سريعة عن قوة الكائنات الفضائية وبشاعتها في القتل والتنكيل.

الوسامة مقابل القبح

تبدو الوسامة طاغية في اختيار الطبيبة والجندي، هذا الاختيار السينمائي هوليوودي المرمى وذو بعد تجاري في الفيلم وأبعاد نفسية عن الجندي الجميل الذي يلتقي الطبيبة الجميلة، وأفق الانجذاب الذي لا ينتهي. إنها سيكولوجية السيطرة على المتفرج، من خلال تقديم هذه الوجبة العاطفية المثيرة التي تعودها كثيرا. ويظهر الجنود الأمريكيون أكثر تضحية وهم يموتون بعيدا عن الديار ودفاعا عن الأرض الإفريقية. في حين يقدم الفيلم الأفارقة كائنات قبيحة وشريرة، قابلة للموت متسرعة غاضبة مقيتة خائنة للعهد، لا يقودها وازع أخلاقي أو ديني أو إنساني، وهي صور نمطية مركبة توضح كيف تصور هوليوود الآخر في أبشع صوره وقتامته. ثم ينتهي الفيلم بدحر الكائنات الفضائية في تعاون وثيق بين المقاتلين الأفارقة والجندي الأمريكي، وتفجير المركبة الأم للغزاة. نهاية سينمائية تنأى عن أصل الصراع في إفريقيا، وتضفي مزيدا من هيمنة الرجل الأبيض على القارة السمراء، وأن وراء هذا الاندحار عقلا أمريكيا يقود عولمة أمريكية بكل مشتقاتها.




المصدر