«أوركسترا» … جماليات تتماهى مع «النسوية الراديكالية»




يتناول العرض المسرحي «أوركسترا» الذي قُدم على «مسرح هاني صنوبر» في المركز الثقافي الملكي بعمّان، قضايا عديدة تتصل بـ «النسوية» و «ما بعد النسوية»، كاشفاً ما تتركه الحروب من ندوب وقروح في نفوس البشر وأجسادهم.

هذه المنطقة من الاشتغال أخلصت لها المخرجة مجد القصص عبر المسرحيات الخمس عشرة التي قدمتها. وفي هذا السياق، يمكن استحضار مسرحية «القناع» التي حضرت فيها مسألة «النسوية» بالمفهوم «الراديكالي» بقوة، والتي رصدت نظرة المجتمع إلى المرأة عبر العصور، كضحية مُجردة من عقلها، لا بل سلعة تُلقى في الزوايا الضيقة، وتحوَّل إلى دمية. وطالبت رسائل تلك المسرحية التي أخرجتها القصص وشاركت في تأليفها نوال العلي، برفض الواقع، والتمرد على ذكوريته وسطوته على المرأة.

ويلاحِظ المتابع لمسرحيات القصص الأخيرة وجود تشابه في فضاءاتها، فتلحّ رؤيتها التعبيرية من الاقتراب من مفهوم الكوميديا السوداء، لتحاكي في إنشائها السورياليَّ والفجائعيَّ واللامعقولَ في الحروب التي دارت ولا تزال تدور في المشهد العربي، الآخذةِ بنيةُ نظامه السياسي بالنكوص والتهافت والتشظي.

وفي جديدها المسرحي «أوركسترا»، وهي من تأليف الروائية سميحة خريس، يستشعر المتلقي في طروحات القصص حضوراً لمفهوم «ما بعد النسوية»، المتمثل في ابتعادها بعض الشيء، والتخفف من دعوات الصراع والتمرد على الواقع الذكوري. وهذا ما تؤكده كلمة المخرجة في المطوية التعريفية بالمسرحية، من أن هذا العمل يدعو في النهاية إلى «تجاوز سلبيات حياة النساء والرجال إلى غد أجمل، يقوم على التوازن بين الطرفين».

وتلفت القصص في «أوركسترا» إلى تطور مهم في ملكاتها المسرحية، عبر اختيارها مع مؤلف النص الدرامي أسلوباً ظهر في مسرحياتها الأخيرة، وذلك بأن تأخذ مسار الأحداث إلى الاتجاه العبثي، على مستوى الشكل، بحيث نجد أن الفضاءات المكانية تتشابه إلى حد كبير.

ففي مسرحية «أوراق للحب» مثلاً، تدور الأحداث في ملجأ أو مستشفى للأمراض النفـــســية، وعلى رغم أن الشخصيات التي تعاني الاضـــطهاد وتعيش القهر بسبب ضياع حقوقها وعدم نيلها الحرية، تحاول مغادرته والانفلات منه، إلا أنها تجد صعوبة كبيرة في ذلك.

وكذلك الفضاء في مسرحية «قبو البصل»، إذ جاء المكان قبواً على رغم أن رسائله تُعلي قيمة الحب بين البشر.

وفي «أوركسترا» التي أنتجتها فرقة المسرح الحديث، تَظهر الشخصيات محاصَرة في مكان محدد ومغلق، وهو عبارة عن بيت للعجزة، لا تستطيع الهروب منه، فتبقى عالقة فيه حتى نهاية الأحداث.

وقد تناغمت جماليات السينوغرافيا لتخدم الرسائل الأساس للمسرحية، إذ استُخدمت الكراسي المتحركة في توظيف درامي متعدد الأغراض، وبخاصة لتعميق حالة العجز لدى الشخصيات، وإظهار فشلها في التواصل بعضها مع بعض، ومع المجتمع خارج بيت العجزة أيضاً.

ومن جهة أخرى، لعبت تصاميم الشخصيات النسائية الخمس إضافةً إلى شخصية الزوج، بصرياً، دوراً مهماً في تشكيل الكتل التي كانت الشخصيات تنشئها، استناداً إلى الألوان الخضراء، والحمراء، والبيضاء، والسوداء، وبما يضمن توظيفات دلالية كثيرة ساهمت سيميائياً في إنشاء الفضاءات والمناخات في كل لوحة ومشهد.

جاء تصميم الشخصيات في العمل الذي عمل محمد العشّا مساعداً للمخرجه فيه جذاباً، وذلك بفعل إظهار عنصر المقارنة الدرامي. ويشمل هذا: الزوج المناضل، والحبيب، والمرأة العاقر، والخائنة، والحبلى، والعشيقة، والدمية، والممرضة.

هذا العنصر الذي صبغ المشاهد بالتنوع، بفعل تمايز الأمزجة وتباين الهواجس، أذكى الصراع الداخلي والتناقض العاطفي في الأحداث، ما ساهم إلى جانب عناصر العرض الأخرى، في جعل المتلقي يقظاً متابعاً حتى نهاية المسرحية.

وكان ثمة عنصران أثّرا بقوة في إنتاج الدلالة المركزية، هما: الأداء التمثيلي، المؤسَّس على لوحات راقصة صممتها آني قوره ليان، ووضع موسيقاها التصويرية محمد طه، ونهض بأداء جميع الشخصيات: زيد خليل، نهى سمارة، بيسان كمال، سارة الحاج، دعاء العدوان، وميس الزعبي.

أما العنصر الثاني فهو الأداء الغنائي والعزف على الغيتار الذي قدمه يزن أبو سليم على الخشبة، مختاراً أغانيَ وألحاناً شائعة، ولكن بإحداث انزياحات في الأداء والكلمات، ما عمّق الدلالات والمعاني للأحداث.

يُذكر أن هذا العمل هو الثاني مسرحياً للروائية خريس، بعد «خشخاش» من إخراج حكيم حرب.

وكانت مجد القصص قدمت للمسرح ضمن مسيرتها الإخراجية: «الساعة التاسعة بالضبط»، «النسر ذو الرأسين»، «الحاجز»، «قبو البصل»، «كفاح الأرواح»، «أخ يا أسناني»، «ظلال»، «الملك لير صوفيا»، «القناع»، «بلا عنوان»، «أوراق للحب»، «بوابة 5»، «أبيض وأسود»، «سجو»، و «الحب في زمن الكوليرا».




المصدر