الحديث في ضرورة الفصل بين السياسة والدين ليس ترفًا



النظريات والأيديولوجيات، وحتى التيارات الفلسفية، هي في نهاية المطاف حصيلة التفاعل بين الفكر النظري والممارسات الواقعية ضمن إطار الخصوصيات المجتمعية. هذا مع تباين التركيز على هذا البعد أو ذاك من دون الأبعاد الأخرى، وذلك تبعًا لطبيعة هواجس واهتمامات المفكّر نفسه، وماهية دوره في الشأن العام.

بناء على ذلك؛ نرى أن النظريات الخاصة بالقومية والعلمانية والاشتراكية وغيرها، هي نتيجة جملة التفاعلات والتطورات التي كانت ضمن المجتمعات الأوربية بالدرجة الأولى، ولكنها اكتسبت البعد الكوني، بفعل موقع أوروبا ودورها على المستوى العالمي، وقدرتها على التدخل، وممارسة التأثير في الخصوصيات المجتمعية الأخرى في مختلف القارات. وما ساعد على ذلك هو أن هذه النظريات كانت تتناول هواجس عامة في المجتمعات المعنية؛ الأمر الذي دفع بالكثير من السياسيين والمفكرين في المجتمعات المعنية إلى تبني تلك التوجهات، والاستفادة منها بأشكال مختلفة. أما في مجتمعاتنا، فقد كان التعامل مع تلك النظريات بصورة أقرب إلى الميكانيكية؛ وكان التبشير بها من دون التدقيق في حدود ملاءمتها، أو البحث في السبل الأنجع لكيفية الاستفادة منها، وفق احتياجات الخصوصية المجتمعية التي يُفترض أن تكون هي الهدف في نهاية المطاف.. وكان التطبيق الحرفي للنظريات أو الأيديولوجيات والمذاهب المعنية، وكان التعامل معها على أنها كل متجانس، يرفض كله أو يقبل كله، ومثل هذا النزوع يكون غالبًا تحت وطأة توجه عقائدي، قد يكون فاعلًا في مرحلةٍ ما لحشد الطاقات، وتركيزها؛ ولكنه يظل في موقع السطحي غير المتغلغل في البنية المجتمعية. وهذا مؤداه عدم تحوّله إلى وجه من أوجه تلك البنية، وعدم صيرورته إلى عامل من عوامل إحداث التغييرات النوعية فيها.

العلمانية -وهي موضوعنا هنا- واحدةٌ من أهم هذه النظريات التي يتمحور حولها الجدل في مجتمعاتنا. وغالبًا ما يكون التصادم بين أيديولوجيتين متكلستين، ترى كل واحدة منها في الأخرى الخطر الداهم؛ فتنسب إليها كل السلبيات، وتمطرها بوابل من الأوصاف السلبية القطعية التي تصادر على أي إمكانية لمناقشات جادة. والأيديولوجيتان المعنيتان هنا هما: أيديولوجيا الإسلام المتشدد المتطرف، أو “التفجيري الشمشوني”، على حد تعبير صادق العظم، والعلمانية الشعبوية، وفق ما ذهب إليه طلال أسد.

العلمانية لها صيغ ونماذج عديدة، ولكن الفكرة المحورية التي تعتبر القاسم المشترك بين مختلف النماذج  تتمثل في أهمية وضرورة الفصل بين السياسي والديني، بصرف النظر عن حدود ودرجة ذلك الفصل. وذلك لبلوغ شكل من أشكال حيادية الدولة في مواجهة سائر مكوناتها الدينية والمذهبية والإثنية وغيرها. فالسياسة مادتها ومرجعيتها هي المتغيرات المصلحية النسبية؛ في حين أن مرجعية الدين هي الموجهات العقيدية الثابتة المطلقة.

الدولة العلمانية، أو المدنية (التسمية ليست مشكلة وإنما المهم هو المضمون) هي التي تدير شؤون جميع مواطنيها من دون أي تمييز بينهم لأي اعتبار كان، ولكنها لا تستطيع بأي شكل من الأشكال فك العلاقة بين الدين والمجتمع، رغم محاولات كثيرة كانت في العديد من التجارب العلمانية المتوحشة إذا صح التعبير. فالدين إلى جانب كونه يجسّد تطلع الفرد نحو المطلق، وسعيه من أجل إيجاد أجوبة عن الأسئلة الوجودية التي تعكس طبيعة الحالة الروحية التي يعيشها الباحث عن المطلق الخالد. إلى جانب ذلك، يُعدّ الدين -بمنظومته القيمية وإرثه التراكمي على صعيد الممارسة والطقوس المجتمعية- جزءًا فاعلًا من ثقافة المجتمع، لا يمكن إلغاؤه بقرارات فوقية مصدرها النزوات أو النزعات الأيديولوجية.

وبناء على ذلك؛ نرى أن العلمانية المطلقة التي سعت من أجل إلغاء أي دور للدين على المستوى المجتمعي، قد أخفقت في العديد من المجتمعات الأوروبية، وليست هي المستهدفة في مجتمعاتنا المشرقية، ولا سيما الشرق أوسطية التي تمثل الأديانُ السماوية الثلاثة ركنًا أساسيًا من تاريخها وهويتها الثقافية، وتشكل مركز الثقل في تراثها المستلهم الذي يدخل عنصرًا مؤثرًا في منظومة تفكير شعوبها. ولعل ما دعا إليه عبد الوهاب المسيري، بخصوص البحث عن صيغة من العلمانية النسبية، يلامس إلى حد كبير تخوم المطلوب بالنسبة إلى مجتمعاتنا.

هذا في حين أن صادق العظم كان هو الآخر مرنًا، في موضوع العلمانية، إلى الحد الذي لم يُلزم بموجبه نفسه بالمصطلح، وذلك في محاولة منه لتجاوز الشحنة القدحية العالية التي أحيط بها المصطلح من قبل خصومه الأيديولوجيين. وفي المقابل ميّز العظم بين أشكال عدة من الإسلام، ووجد إمكانية تحقيق صيغة من التوفيق أو التناغم، بين إسلام التجار والبازار، وهو الأقرب إلى التدين غير المسيّس الذي تتسم به مجتمعاتنا بصفة عامة.

لقد أثبتت تجارب الإسلام السياسي المتشدد بمنحييه السني والشيعي، على مدى العقود المنصرمة، وفي العقد الأخير على وجه التحديد، بأنها تجارب عاجزة عن تقديم الحلول الواقعية لمشكلاتنا المجتمعية، ومشكلات الشباب والتنمية بصورة خاصة. شأنها في ذلك شأن الأنظمة الاستبدادية التي استمدت عوامل استمراريتها في الكثير من الأحيان من التجارب المعنية بصيغها وأسمائها المختلفة. فقد تمكنت الأنظمة المعنية، بفعل خبرتها ومعرفتها بماهية الحسابات والمصالح الدولية، من وضع العالم أمام خيارين فاسدين هما: إما الاستبداد أو الإرهاب الإسلاموي. وحاولت بشتى السبل المصادرة على البدائل الأخرى المحتملة، التي يمكنها القطع مع الاستبداد والإرهاب في الوقت ذاته.

بقي أن نقول: إن اتساع نطاق الاهتمام بالمناقشات الجارية حول العلمانية، ومدى إمكانية اعتمادها في واقع مجتمعاتنا، هو بذاته مؤشر إيجابي يُبنى عليه، لأنه يؤكد نهوض توجه جاد ناضج، يسعى أصحابه لتجاوز دائرة محظورات الفقه الجاهل الذي يتمترس أصحابه خلف قراءات إشكالية جامدة لنصوص حمّالة أوجه، ويهملون واقعًا معاشًا جوهره التحديات والمتغيرات في جميع الميادين.

في الوقت نفسه، نرى أن العلمانية الميكانيكية في صيغها الأيديولوجية السطحية التعبوية، قد أساءت كثيرًا إلى الجهود العقلانية التي بذلها، ويبذلها، العديد من مفكرينا، هؤلاء الذين يحاولون بشتى السبل إيجاد مخارج النجاة لمجتمعاتنا، بغية إنقاذها من طوفان الثالوث غير المقدس: الاستبداد والفساد والتطرّف.


عبد الباسط سيدا


المصدر
جيرون