مخيم اليرموك
15 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
كان المخيمُ بيتًا وصديقًا ورصيف انتظار، كينونة تضج بالحياة رغم الموت، بل “جكارة” بالموت، شارع اليرموك الطويل الواسع الذي يلتقي بشارع فلسطين عبر شارع (لوبيا)، الشوارع التي توزع الدروب الصغيرة على حارات اللاجئين، للدروب أسماء قرى الجليل ومدائن البحر والجبال الحزينة، وأسماء الراقدين في مقابر الشهداء، مدارس وكالة الغوث، وكرت الإعاشة، وحوارات أهل القرى الحزينة.. المخيم الأزقة المليئة بالضجيج، والبيوت التي تعج بالثكالى بحزن عميق، قصص ذكريات من بقي حيًا من التغريبة الأولى.
المخيم أمّي، أمّ المخيم، التي انتظرت طويلًا طويلًا العودة إلى يافا، وبحرها الذي تُسمّيه بحر يافا، أمي التي استل الحنين روحها وأودعها أرض المخيم.. المخيم الدموع التي شيّعت أبي، أبي جد المخيم، والحناجر التي قادته بالأناشيد إلى مقبرة الشهداء في المخيم، ولَم يكن شهيدًا على أرضها.. المخيم قبر أخي الأبدي الذي مضى في لحظة عشق للحياة حاملًا جعبة أحلامه وآلامه وقهر السنين.
المخيم مُلصق يحكي قصة الطلقة الأولى ووجوه الراحلين إلى الأبدية، وجدران البيوت المرصعة بوجوه الشباب الذين قضوا فداءً، صور “الختيار” المتربع على عرش القلوب، بكوفيته الشماء وضحكته المتفائلة وشارة النصر، والموجود في الأهزوجة وقت الحزن والفرح.. المخيم تجاعيد قهر الحزن والزمان على وجه أمٍّ تغني للشهيد وللأسير وللعريس.. المخيم حيث الأسطح صالات الزفاف، يصدح فيها صوت درويش، وحارات العزاء التي لا يحضر الموت فيها إلا بأناشيد فرقة العاشقين.. المخيم التظاهرات التي خرجت حرة، وصرخت في وجه الطاغية: لا.
المخيم صباحات فيروز ومساءات أم كلثوم، وازدحام الناس ليلة العيد على صوت الست: “الليلة عيد”، والأفران التي تفوح منها رائحة الكعك و”المقروطة”.. المخيم صباحات العيد والأطفال المزركشون، والأراجيح، والأحصنة، وغزل البنات.. المخيم صالات محاضرات المساء في مركز غسان كنفاني، ولقاء الأحبة في بيت يوسف اليوسف صباح الجمعة.. المخيم رجال المخابرات المساكين ساكني المخيم الذين يقرعون الأبواب ليلًا، ليسألوا ساكنيها عن أسمائهم. المخيم ملجأ الهاربين من جلادي النظام، وضحكة علي الشهابي الذي ما زال مُغيّبًا في أقبية السجون، بعد الغياب الأول لا يعرف عنه أحد.. المخيم بائع السمك في السوق الذي يوقف البيع، حتى ينتهي من الحوار مع الفيلسوف.. المخيم امتزاج الروح الشامي الذي مزقه الإخوة (سايكس – بيكو) وحافظ عليه الوارثون ممزقًا.
وتسألني ابنتي: أيلجأ اللاجئ، يا أبتي؟ أجل يا ابنتي، يلجأ اللاجئ من موتٍ يتربص بكم، يقيم في عيون قطاع الحواجز، من خطرٍ يتوارى خلف التلال القريبة يطل من فوهات البنادق، من سجنٍ يختبئ في تقارير المخبرين وجرار الحقد المعتقة وسكّان الأقبية السوداء.
ما الذي يرجوه اللاجئ يا ابنتي؛ إذا دمّر الطغاة رصيف انتظاره، وراحوا يكذبون ويكذبون؟ ما الذي يقوله لجلاد يرفع في وجهه بطاقة الطرد من الحياة؟ ولعقرب بربطة عنق باريسية، يسأله مستنكرًا: ما الذي يغريك بالحرية، وأنت ضيفٌ في هذا البلد، ولشاعرٍ تظاهر بالبؤس واليأس وراح يمتدح الطاغية، وفاحت من كلماته رائحة العفن المعتق.
إلى أين يا أبتي؟ إلى نوافذ لا يُغلّقها الخوف، إلى أبواب لا يقرعها عسس الليالي الخائفين حتى من الكلام، إلى أوراقي التي براها الشوق لأقلامي، لفضاء يعيد لحنجرتي فصل المقال، إلى لغتي، إلى لائي، إلى بوحي، إلى مدنٍ لا تعرفنا ولا نعرفها، اللاجئ -يا ابنتي- جناح عابث في دروب الريح، قلب يتدفق بالحلم، وعينان تختزنان دمع الفرح المؤجل.. إلى أرصفة انتظار جديدة، يا ابنتي، للقدس أو لدمشق هذه المرة.
أحمد برقاوي
[sociallocker]
جيرون