كارنيغي موسكو: ماراتون خريفي.. كيف عطّل هروب رجال الأعمال من برشلونة استقلال كتالونيا



في وقتٍ واحد وبسرعة ملفتة، قامت معظم الشركات بنقل مقارّها الرئيسة من كتالونيا. وبدلًا من أن تكون كدولة أندورا الغارقة بالرفاهية، ستتحول الجمهورية الكتالونية التي يجري إنضاجها إلى ما يشبه الأرجنتين عام 2008 أو بلغاريا بعد الاشتراكية.

حين إعلان انفصال بيتربورغ عن روسيا، وإعلان قيام جمهورية بيترغراد الشمالية-الغربية المستقلة؛ حصلت انتقالاتٌ فجائية سريعة. فقد انتقل بنك (سانت بتربورغ) إلى سوتشي، وتركت شركة (غاز بروم) برجها الذي لم ينته بناؤه بعد، وسارعت إلى تسجيل مقر لها في موسكو. أما سلسلة مطاعم Ginza في بيتربورغ، فتقوم بإغلاق فروعها. ومن ضفاف نهر النيفا في سانت بتربورغ، تنقل معامل إنتاج الفودكا (روسكي ستاندارد). ويقوم معمل البيرة (بالطيقا) على نقل سجلاته إلى ياروسلاف، في حين أُعلن عن إغلاق خطوط تجميع الآلات اليابانية على طريق بولكوف. وخلال 24 ساعة انتقل (فودوقنال) من بيتربورغ إلى موسكو.

القارئ الأجنبي لا يعرف أسماء غالبية الشركات الإسبانية، ولكن ما حدث في بيتربورغ هو صورةٌ دقيقة عما حدث في برشلونة هذا الأسبوع.. هروب المستثمرين ورجال الأعمال. ففي وقتٍ واحد وبسرعة ملفتة، قامت الغالبية العظمى من الشركات بنقل مقارها الرئيسية من كتالونيا. يقال إن عميد الأعمال الكتالوني، الملياردير العجوز إيسديريو فاينه، وبوساطةٍ من الملك الإسباني فيليب؛ حصل من الحكومة الإسبانية على موافقةٍ مستعجلة لتعديل مرسوم تبسيط إجراءات تغيير العنوان القانوني لأعماله. واعتبارًا من الأسبوع الماضي لم يعد مطلوبًا موافقة جمعية المساهمين لإعادة تسجيل الأعمال، وأصبح قرار مجلس المديرين كافيًا لإنجاز المعاملات.

كان رجال الأعمال، ولا سيّما الكبار منهم، يعارضون بصمت استقلال كتالونيا. “بصمتٍ”: يعني من دون الإعلان عن ذلك، الأمر الذي كان يُفسّر خطأً، حتى وقتٍ قريب، بأنه “موقف غامض”. ربما كان الأمر كذلك، ولكن خوف رؤساء الشركات من خسارة رؤوس أموالٍ ضخمة، جعلهم يظهرون أنفسهم في السياسة، كما هم عليه في عالم الأعمال، أي بصورة الرجال الحازمين، القساة، القادرين على اتخاذ القرار والتصرف.

ستكون كتالونيا دولةً معدمةً من دون اقتصادٍ قوي مستقل، وستكون أي سلطة فيها محكومةً بالفشل. عدم تنفيذ الالتزامات، صفوف الانتظار في البنوك للحصول على الإيداعات ورفوف المخازن الفارغة. هذه الصورة لن تقنع أي ناخبٍ، مهما كان متعصبًا، وإن كان قوميًا وانفصاليًا حتى النخاع. وبدلًا من أندورا الغارقة بالرفاهية، تحولت الجمهورية الكتالونية التي يجري إنضاجها إلى ما يشبه الأرجنتين عام 2008، أو بلغاريا بعد الاشتراكية.

انظروا، من غادر

كي نفهم حجم هروب رجال الأعمال، علينا النظر إلى الشركات الرئيسية ومؤشراتها. في القطاع المصرفي البنوك La Caixa وSabadell.،  وهما البنك رقم ثلاثة و أربعة بين البنوك الإسبانية، انتقلا إلى فالينسيا وأليكانتي. تقدر أصول بنك La Caixa بـ 350 مليار يورو، بينما تبلغ أصول بنك Sabadell بـ 212 مليار (للمقارنة تبلغ أصول بنك الادخار الروسي 335 مليار فقط، في حين تبلغ أصول البنك الثاني من حيث الترتيب في روسيا 140 مليار).

كما  توجه إلى مدريد عملاق الغاز Gas Natural Fenosa الذي يصل رأسماله إلى 35 مليار يورو، أي بزيادة 20 بالمئة عن رأسمال (لوكويلا)، وبمرة ونصف أعلى من (سورغوت نفط غاز) الروسيتين. حيتان سوق البناء: Colonial و Albertis، وكلاهما برأسمالٍ عند 6 مليار يورو، توجّها أيضًا إلى مدريد. تمتلك Albertis امتيازات على الطرق السريعة، ويعرفها كل من يسافر على الطرق الإسبانية.

أما منتجات شركات Freixenet و Codorniu فمعروفةٌ في الأسواق، ومن بينها السوق الروسية بمنتجها النبيذ الفوار (cava). وهاتان الشركتان في طليعة الشركات العالمية في هذا المجال، على الرغم من أنهما تمتلكان مصانع وخطوط إنتاج المشروبات الروحية القوية. كلتاهما ستتخذ قرار الانتقال من كتالونيا في القريب العاجل، بحسب اتخاذ قرار الاستقلال الفعلي.

شركة التأمين Catalana Occidente برأسمال 1.2 مليار يورو، رائد سوق البريد MRW برأسمال سنوي بقيمة 136 مليون يورو، شركة التكنولوجيا العالية Cellnex برأسمالٍ يفوق 1.7 مليار يورو، دار النشر الأسطورية Editorial Planeta.، أعلنت جميعها عزمها على الانتقال إلى مدريد. ومن الغريب، أن شركة المياه “مياه برشلونة” (Aguas de Barcelona) قد انتقلت هي الأُخرى إلى مدريد، وليس من المعروف كيف ستعمل هناك، فالأنابيب لا يمكن نقلها!.

هذه فقط الشركات الكبيرة التي يتم تداول أسهمها في البورصة. الصورة نفسها تطغى في أوساط الأعمال المتوسطة، وينطبق الأمر نفسه على الشركات الأجنبية. فاليابانيون -على سبيل المثال- كانوا يقومون بكل هدوءٍ، وعلى ومدار 5 سنوات الماضية، بنقل ممثليات شركاتهم إلى مدريد. الأمر نفسه، قام به عملاق السيارات العالمي Volkswagen و  Daimler. والآن، ينتظر عملاق الإنترنت Amazon، الذي بدأ مشروع بناء أكبر مركز لوجستي في أوروبا قرب مطار برشلونة.

على الأرجح، كان بإمكان قطاع الأعمال الذي يتحمل مسؤوليةً اجتماعيةً كبيرة في إسبانيا، أن يحدد موقفه بوضوح. وقد كان من الممكن تجنب غرق السفينة السياسية، الذي يحدث الآن أمام أنظارنا. غير أن التشرذم وعدم الرغبة بالخوض في السياسة فعَلا فعلهما. والآن، لم يعد هناك مهرب، فمدريد وراءهم. وبالطبع، فإن الحسابات البراغماتية تلعب دورها دائمًا. السوق التي كانت تتصوره الجمهورية الكتالونية لا يتعدى 7 ملايين شخص على الأكثر، أما سوق بقية إسبانيا فأكثر من 40 مليون، والسوق الأوروبية 450 مليون مستهلك. فماذا بإمكان قطاع الأعمال فعله؟ الجواب واضح.

كل أوروبا

بالطبع، لعب أكثر من مستثمرٍ دورًا مهمًا في منع انفصال كتالونيا غير الشرعي؟ ففي الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الماضية، حاول الجميع إعادة القوميين إلى جادة الصواب، ولكن أحدًا لم يفلح. فقد حاول رئيس الوزراء الإسباني راهوي إخافة الكتالونيين من نتائج الانفصال، وألغت المحكمة الدستورية قوانينهم المرتجلة، وفرض الادعاء العام غراماتٍ مالية وأمر بنزع اللافتات. من جانبه، وصف الرئيس الأميركي نشاطهم بـ “الغباء”، وقالت المستشارة الألماني ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون إنهما يدعمان إسبانيا الموحدة. وخاطب رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك رئيس كتالونيا بالقول: “نرجو ألا تدلوا بتصريحاتٍ يمكن أن تؤدي إلى نتائج لا يمكن تصحيحها”.

تركت كلمة الملك فيليب الرابع، الأسبوع الماضي، أثرًا كبيرًا. فقد توجه العاهل الإسباني عبر التلفاز بكلمةٍ  إلى الشعب، دان فيها قيادة كتالونيا، معلنًا بذلك معارضته للانفصال: “أنتم لستم وحدكم، ولن تكونوا وحدكم أبدًا”. وكان الملك قد خاطب الشعب آخر مرة، قبل 35 عامًا (بالطبع إذا استثنينا كلمته بمناسبة أعياد رأس السنة)، في أثناء محاولة انقلاب شباط عام 1981.

وكذلك للمرة الأولى في تاريخ الديمقراطية الحديثة، خرجت في برشلونة تظاهرة كبرى لـ “الغالبية الصامتة”، رفعت شعاراتٍ تدعو إلى وحدة البلاد. وتشير التقديرات الى مشاركة ما بين 400 و 950 ألف شخص، بينما كان عدد مشاركي تظاهرات المعارضين في المرات السابقة أقل بـ 10 – 20 مرة. المعنويات العالية التي أبداها مواطنو برشلونة المعارضين وحماسهم، جعلت حكومة بوتشديمون ترتجف.

في النهاية، كان الجميع على موعدٍ يوم الجمعة بانتظار إعلان استقلال كتالونيا من جانبٍ واحد، ولكن بدلًا من ذلك وقّع 72 من النواب الانفصاليين مذكرةً حول الاستقلال، وفي الوقت نفسه، على إيقاف العملية. أُجّل الموضوع إلى عدة أسابيع، وربما تسمح الظروف بتليين الموقف وتدوير الزوايا.

تتسارع الأحداث، ولكن في اللحظة الراهنة تميل مدريد إلى تطبيق المادة الدستورية 155، وإلغاء حكم كتالونيا الذاتي لفترةٍ محددة. يتعرض دعاة الاستفتاء غير الشرعي لعقوبة السجن، بحسب المادة التي تتهمهم بخيانة الدولة والإعداد للقيام بانقلاب. كم كان كلام رئيس الوزراء الإسباني مرًا: “على يوتشديمون البحث عن محامٍ جيد”. من المحتمل جدًا، أن يكون المسمار الأخير في نعش مشروع الاستقلال قد دُق بأيدي رجال الأعمال.

اسم المقالة الأصلية Осенний марафон. Как бегство бизнеса из Барселоны помешало независимости Каталонии الكاتب بيتر أنروشيفيتش مكان وتاريخ النشر كارنيغي موسكو. 11 تشرين أول 2017 رابط المقالة http://carnegie.ru/commentary/73352

ترجمة  سمير رمان


سمير رمان


المصدر
جيرون