كُنت في الرقّة



ليس الفقر هذه المرّة، باعتباره اللبنة الأولى لبلورة مشروع إرهابي قادم، ولا الوسط الاجتماعي، أو المستوى التعليمي الهشّ، لكن ربّما الدولة المدنية، دولة الاستقلال التي عجزت عن إنتاج نموذج خاصّ بها، نموذج يرتقُ أيّ شرخ أو منفذ نحو الاستلاب أو الإرهاب. محمّد الفاهم، هو حصيلة تسلسل منطقي لدولة أنتجت أجيالًا هجينة! التعليم العصري ونمط العيش المترف -نوعًا ما- لم يكن حصنًا كافيًا، ولا شيء قد يكون سدًا منيعًا أمام (داعش)، ذلك الوحش الإرهابي الذي يقضّ مضجع أعدائه أو حلفائه دون تمييز.

مصافحة الأثر؛ اللقاء الأول نحو مضمونه:

“الأفضل لي أن أنسى كل هذا الآن”، تواترت هذه الجملة أكثر من مرة، في أكثر من سياق، ممزوجة بتوطئة، مثّلت إدانة للمعروف والثابت، حسب الكاتب والإعلامي هادي يحمد، وهو إعلامي وباحث تونسي متخصص في الحركات الإسلامية، تناقلتها الألسن في الرواية، لغاية معلومة الحيثيات، بآليات نقديّة مصطنعة! شهادة، كانت حرّة، حيّة، وثورية، وكانت -بحسب الكاتب- شهادة من الداخل، خُطّت بحريّة كاملة من دون ضغوط، نقلها أحد روّاد مشروع الدموية والسرديات الدينية الجهادية.

محمد الفاهم المولود أوائل تسعينيات القرن المنصرم بـ “دورتموند” شمال ألمانيا، شاب يمثّل نموذجًا حيًّا لشريحة مهمّة في “تنظيم الدولة الإسلامية”. من ألمانيا إلى الوطن القبلي، مرورًا بصحراء جنوب تونس تُجاه صبراته، ليحط الرحال في إسطنبول، فالرقّة، الرقّة التي مثّلت بوتقةً للصراعات الطائفية والتوظيفات الأيديولوجية؛ حيث يصبح للصراع إرهاصات أخرى غير مألوفة لدينا، مرورًا بمنطق (الحاضنة الشعبية) هذا المنطق البراغماتي في تعاملهم مع أهالي الرقّة، إلى عذر الجاهل بجهله من عدمه.

من الناحية الشكليّة، امتدّت هذه الرواية على أربعة وعشرين فصلًا، من سرابِ (دابق)، إلى الهروب إلى الدولة من ناحية المضمون، لكن محمد الفاهم لم يتجاوز الدولة في شهادته، بَقِيَ رهين “بافلوفية” مقيتة يشتغل عليها، إما من الدولة أو على الدولة، بحثًا عن سيرة الذات وعلاقتها مع الآخرين، باعتبار أن الأثر يسلّط الضوء على مراحل نشأة الوحش الأدمي، على مساراتهِ المختلفة، استرجاعًا للنشأة والطفولة والمراهقة.

أمّا العنوان، باعتباره أول لقاء مادّي (فيزيقيّ) محسوس بين القارئ والكتاب، كما يعبر الأستاذ بسام قطوس، فهو يبعث بنا إلى الريبة تجاه هذا الهروب، هل هو هرب لأسباب إنسانية، لفظاعة تنظيم الدولة، أم استتابة من غلوّهم وقصور معرفتهم بالدين؟ عنوان يجعلنا تجاه مساءلة للكتاب، والنبش عن أسباب الهروب.

محمد الفاهم جزءٌ لا يتجزأ من الدواعش:

إنّ ما يرجّح وجاهة الاختيار هو وجود المشترك في تنظيم، أهم سماته هو تبنّي العقيدة الواحدة والرأي الواحد؛ أي اشتراك المتعدّدّ والجماعي في النظرة الواحدة والمصير الواحد (ص 14) هكذا ذكر الكاتب في مقدّمة كتابه، عكس كتابه الآخر (تحت راية العقاب) الذي قدّم فيه فسيفساء بشرية، متمثّلة في بورتريهات مختلفة ومتعدّدة، لكن هذا لا ينفي أنّ الاختلاف هو اختلاف في العرض وليس في الجوهر. إنّ رابطة الدين المتينة -على حدّ عبارة المفكر العربي صادق جلال العظم- مثّلت اللبنة الأولى والإسمنت المسلّح في بناء ركائز تنظيم الدولة، لا من الناحية الدينية باعتبارها مكوّنًا روحيًا، لكن من زاوية طائفية، ربّما تتجاوز طائفة “السنة”، إلى أعلام التيّارات الجهادية! لقد تفطّن الهادي يحمد، وهو يمؤسس لخراب سرمدي في كتابه، أنّ محاورة، يمثّل إحدى حتميّات الصراع “الاجتهادي التأويلي” في خضم مخاض عسير، تمرّ به الدولة في أولى مواجهاتها الفكرية والعقائدية، حيث ينقل على لسان محمد الفاهم: “اكتشفت أنّ في الدولة الإسلامية تكفيرًا متبادلًا بين تيّارين: “البنعليّة” نسبة إلى شرعي الدولة الأول البحريني (تركي البنعلي)، وشيخ آخر سعودي له أتباع في الدولة، هو (أحمد بن عمر الحازمي)، ويطلق على أتباعه “الحازمية”.

صراع كان حطبه محمد الفاهم ورفيق الغول، وغيرهما كثير من المنسيين بين خراطيش (داعش). صراع لم يتبلور مشروعه العقائدي: جبهة القتل ضد تنظيم القتل. أي عبث قد نقله محمد الفاهم إلينا، ونحن نحاول تشخيص ظاهرة كأنّنا في جلسة إكلينيكية.

لقد بات من الواضح والجليّ أن الخطاب الديني قد اكتسب قوته وتأثيره الرّمزي، لكونه مُشبّعًا بالتخيلات والتصوّرات الأسطورية الميتافزيقية العقائدية، كما أكّد على ذلك ابن سينا، أي أنّ استخدام الرموز الخيالية لغرس الصدق بطريقة اتصالية، كانت أنجع وسيلة خطابيّة لترويج الدين. هكذا صيغت لأوّل مرة فكرة أنّ الدين فلسفة للجماهير التي أثّرت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث، لكنّه –الدين- أصبح في القرن الواحد والعشرين بديلًا راديكاليًا عن الوطن الذي لا يمثّل كيانًا جغرافيًا فقط، لكنّه فسحة من النوستالجيا، الرحم الذي تنبثق منه الأحلام! لقد كان التلميح والتصريح في جملة محمّد الفاهم جليًا حين عبّر عن رغبته “لقد كانت رغبتي في تلك الفترة هي التخلّص من هويتي. سلّمت كل وثائقي التي أصبحت عبئًا عليّ، عبء انتماءٍ إلى هذا الزواج اللعين الذي حرمت منه يومها” (ص 144). فحين تصبح غاية الطموح هي التخلي بكل ثورية وحريّة عن إحدى الوثائق البيروقراطية التي تمثّل عائقًا أمام استكمال المشروع الديني؛ نجد أنفسنا أمام ضروب شتى من الحيرة، عن دور الوطن، عن دور العائلة باعتبارها النواة الأولى –سوسيو ثقافيًا- في التنشئة والتربية، وعن الهالة الإعلامية الكبيرة للدولة الإسلامية، والجنة الموعودة، وربّما عن الجحيم الهادئ.

محمّد الفاهم الذي وجد نفسه في الصراط يحاول الاهتداء بغشاء رقيق يتبعه، بين دولة مدنية لم تفلح في إنجاب مواطن سويّ، ودولة ثيوقراطية كانت تغري عاشقيها بشيء من الحلم والحنين.

من مغامرة الكتابة إلى كتابة المغامرة:

حين انتصبت حفلة الدم العدمية -على حدّ تعبير صاحب الكتاب- كان محمّد الفاهم أشدّ فوضوية من “باكونوين” نفسه، لقد كان كتلة متحرّكة من الحقد والكره والساديّة، وكان في آن عقلانيًا محنّكًا. لقد اختزل الشرّ في الدولة التونسية، المدنية، لم تثنه رمال الصحراء القاحلة، لم تمنعه شدّة الحرارة، حتى إشرافه على الموت عطشًا أو بعض الآلام التي ألمت بساقه، وذلك –فقط- كي يكون شاهدًا على الفوضى الخلّاقة، على الشرّ حين يخرج عن طوره، على حفلة الشواء البشريّة، ودماء الرعب الغامقة ورائحة البارود وبقايا الأشلاء الآدمية… كي يواكب الفوضى التي ستسود المكان.

لقد أتعبتك حاجتك إلى القتل، وسقطت في الزمن، حسب تعبير أميل سيوران، وأنت –كذلك- يا محمّد الفاهم، لقد هربت من جحيم دولة، نحو رحم الغياب، لعلّك تجد مكانًا تنتهي فيه محاولتك الهروب، لكنّك وجدت نفسك -أيضًا- تعيش أوهام الدولة التي “لا يظلم فيها أحد”. مغامرة هي، التي خضتها أنت أيّها الهادي يحمد، حين حاولت الولوج دون تبييض، إلى تخوم الشرّ والشوفونية، في عصر كونيّة حقوق الإنسان، فقدّمت إلينا محاكمة أخلاقيّة لذواتنا، وربّما عريّت وهم النمط… “نعم الدولة كلب ضالّ، يفصل الأبناء عن الآباء، ولكنّ أيّ دولة تقصد؟ دولة الاستقلال أم الدولة الإسلامية؟ كلتاهما في ذهنك فشلتا في بناء جيل سويّ” (ص 42). هكذا صدّحت، وهكذا زَعزعت حقائق ثابتة منذ الاستقلال، أما أنت، فلم تكن مطالبًا بهذا، لقد أخطأت، يا محمّد الفاهم، فإثباتك كان منتهِجًا على أسس خاطئة وقاعدة هشّة، بأنّنا لسنا أقل غيرة على الدين من الجزراوية والآسيويين.

توظيف التجربة الحيّة كآليّة نقدية واستثمارها:

ما بقي من محمّد الفاهم، هو الاسم، هو بعض المعطيات الشخصية التي لا تفيدنا، أمّا ما بقي من الكتاب، فهو استثمار التجربة الحية، باعتبارها تسربّت من شقوق تنظيم تقوقع على نفسه ونبذ الآخر، الأنا، الـ أنتم، والـ نحن، لقد تآكلت ورقة التوت من تلقاء ذاتها، وتساقطت قطع الدومينو واحدة تلوى الأخرى، وانقشع وهم “الدولة الإسلامية”، وأصبحت محاصرًا بين الأوهام والأغلال، تدحرج صخرة نحو القمة مثل سيزيف، كي تنزل مرّة أخرى إلى الهاوية، وبين وهم الدولة المدنية والدولة الإسلامية، وجدت نفسك في سلّة الوهم الاجتماعي. أنت ضحيّة منهج تربوي، وتنشئة اجتماعية، أنت ضحيّة دولة، لا تؤمن بالوقاية أو بالعلاج، بل تؤمن بالعقاب! نعم، من الأفضل أن تنسى كل هذا الآن، يا محمد الفاهم، لكن ما حدث عصيّ على النسيان، حبّة النسيان باتت شاهقة كفاية، حتى أصبحت عصيّة على البلع! وربّما لعجز شخصيّ عن القراءة والتقييم، وجدت أطروحة واحدة، كفيلة بالتعبير عن سريالية هذا المشهد وعبثيّته، فهي كما عبّر صاحب الكتاب عن هذه المهزلة التي قدمت إلينا في شكل مأساة ومهزلة، في آن “ربّما تكون القصّة كلّها بُكاء وعذابات أمّهات، يبكين على أبنائهنّ ملائكة كانوا أو وحوشًا (ص 112).

في إحدى روائع الأدب المعاصر، كتب في خاتمة رواية (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ: يقف حسنين في منتصف الجسر، ثم يقفز منتحرًا، وهو يقول “فليرحمنا الله”.

تذكّرتها لا لشيء، ولكن لكل شيء. إنّ حسنين هو نفسه محمد الفاهم، باختلاف طفيف في شكل الانتحار، مع نهاية سوداوية وقاتمة مشتركة بينهما، جيل بأكمله يقف أمام جسر، يريد الانتحار، والانتحار منوّع، بين (داعش) ومنتصف جسر يقف أمامه جيل كامل.

يبقي السؤال الحارق هنا؛ هل نقل محمد الفاهم ما أراد، أم ما حصل؟ هذا هو الإشكال المطروح بشدّة! سؤال لا يتطلّب موقفًا سياسيّا للإجابة عليه وحلّ لغزه، لكن يتطلّب موقفًا إنسانيًا، بين أن نفكّر جيدًا وأن نقوم على نحو أفضل، كما عبّر الفيلسوف إدغار موران؟ كان بإمكانك يا محمّد الفاهم، أن تغفر وتسامح وتتصالح وتروّض الوحش الكامن في داخلك، لكنّك قضيّت وقتك في عزاء الوهم، وأنت تعزف مقطوعة حياتك على أطلال الدمار، كما صدحت: إذا لم تقتل؛ فستُقتل (ص142).


أسامة سليم


المصدر
جيرون